مقاومة "الأسرلة" في سياق الهبّة

مقاومة "الأسرلة" في سياق الهبّة

28 فبراير 2016
(كارلوس لطوف)
+ الخط -

ماذا تعني مقاومة "الأسرلة" في سياق الهبّة الشعبية الفلسطينية الحالية؟ تعني أكثر من أي شيء آخر، دحض الرواية الإسرائيلية ولا سيما في الحلبة الدولية في ظل أوضاع تكسب فيها هذه الرواية مناطق جديدة أو تستعيد مناطق قديمـة، بتأثير أحداث إقليمية ودولية راهنة ومستجدّة.

"الأسرلة" اصطلاحًا هي المقاربة التي تعمل إسرائيل على الدفع بها قدمًا ليل نهار، وتروم إقناع العالم أنه بحاجة إلى "عقيدة جديدة" أو "قواعد لعبة أخرى" تتعلق بفلسطين والقضية الفلسطينية، فحواها تركيز التطلع نحو "سلام إقليمي"، بشرط أن يكون مثل هذا الأمر تاليًا أو تحصيل حاصل اكتشاف بعض العرب أن بينهم وبين إسرائيل مصالح مشتركة.

وفي إطارها لا تني إسرائيل تحاول القول بأن "داعش" موجود في قطاع غزة وفي بقية مناطق فلسطين التاريخية، ضمن مسعى يهدف إلى إقناع العالم بأن حربها ضد الفلسطينيين جزء من الحرب الدولية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".

في مطلع الشهر الحالي، انشغلت وسائل الإعلام بتصريحات أطلقها بنيامين نتنياهو لدى قيامه بجولة تفقدية في منطقة الحدود مع الأردن تفقد فيها سير العمل على إقامة "الجدار الأمني" في هذه المنطقة وتلقى تقارير حول تقدّم الأعمال، وقال فيها إن حكومته تعدّ خطة متعددة السنوات لإحاطة إسرائيل بجدران أمنية من أجل "الدفاع عن الدولة في الشرق الأوسط... كما هو حاليًا وكما من المتوقع أن يكون"، مؤكدًا أنه "في ضوء طبيعة المنطقة التي نعيش فيها علينا أن نحيط دولة إسرائيل- الفيللا- بالجدران لنحمي أنفسنا من الحيوانات المفترسة"!

لم تكن هذه أول مرة يجاهر فيها بهذه المقاربة، ففي مطلع أيلول/ سبتمبر 2015 (قبل اندلاع الهبّة الشعبية الفلسطينية بشهر) أعلن نتنياهو أن إسرائيل دولة صغيرة جدًا ولا تمتلك عمقًا ديموغرافيًا وجغرافيًا، ولذا عليها أن تسيطر على حدودها في مواجهة "المتسللين غير الشرعيين الباحثين عن العمل والإرهابيين"، وهذا ما سبق أن فعلته على "حدودها" مع شبه جزيرة سيناء [مصر] حيث أوقفت التسلل من هناك.

وجاء إعلانه هذا ردًّا على ادعاءات، بما في ذلك من طرف أوساط سياسية في المعارضة البرلمانية، أن إسرائيل لا تعمل ما فيه الكفاية لـ"مساعدة سكان الدول المجاورة وتخفيف معاناة اللاجئين منهم" الذين يدقّون أبواب الدول المجاورة طلبًا للنجدة، وأشار فيه أيضًا إلى بدء أعمال إقامة جدار أمني في "منطقة الحدود الشرقية" [مع الأردن] وإلى أنه في المرحلة الأولى سيُقام جدار يمتد من منطقة "تمناع" إلى "إيلات" من أجل الدفاع عن المطار الذي يجري إنشاؤه هناك، ومن ثم سيستمر العمل ليمتد الجدار إلى هضبة الجولان حيث جرى أيضًا إقامة جدار أمني قوي.

ووفقًا لنتنياهو تشكل هذه السياسة ترجمة على الأرض لعقيدة زئيف جابوتنسكي المستندة إلى مبدأ "الجدار الحديدي" المتمثل بالقوة العسكرية المستمرّة والمتعاظمة، والقائمة على الإيمان الراسخ بـ"عدالة الصهيونية"، كما أكد هو نفسه في سياق الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم رسمية لإحياء الذكرى السنوية الـ75 لوفاة جابوتنسكي أقيمت في "مقبرة عظماء الدولة" على "جبل هرتسل" في القدس يوم 16/7/2015، بعد يومين من توقيع "اتفاق فيينا" بين الدول الكبرى الست [مجموعة الدول 5+1] وإيران حول البرنامج النووي الإيراني.

وتتسق مقاربة نتنياهو هذه بشأن "الأسيجة الأمنية" و"الجدار الحديدي" مع تأكيدات تتواتر منذ تشكيل حكومته الحالية قبل نحو عام، تشير من ضمن أمور أخرى إلى أنه لن يسمح بأي تقدّم فعلي في طريق تسوية القضية الفلسطينية، حتى لو كلفه ذلك حياته وخاصة من أجل الحفاظ على بقاء الائتلاف اليميني الذي يترأسه.

كما تلفت هذه التأكيدات إلى أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية في قسمها الأكبر تستبعد الموضوع الفلسطيني، ويحتل أمن الدولة قائمة اهتماماتها، ويتصدّر المشروع الاستيطاني سلم أولوياتها بما في ذلك توسيع المستوطنات خارج ما يسمى "الكتل الكبرى".

في سياق ذي صلة، يؤكد نتنياهو أمام الكثيرين من زعماء أوروبا أن إسرائيل "حامية الحضارة هنا في قلب الشرق الأوسط في وجه الوحشية الجديدة" التي برأيه "تأتي من تيّاري الإسلام المتطرف: تيّار السنة المتطرفة بقيادة داعش وتيّار الشيعة المتطرفة بقيادة إيران"!


"فيللا في غابة"
منذ اندلاع الثورات العربية فإن أكثر ما يشغل بال نتنياهو هو إعادة التذكير بـ "دور إسرائيل الوظيفي" في المشرق العربي.

والقصد، كما ذكر بنفسه أخيرًا، "دور فيللا في غابة" بحسب توصيف أطلقه سلفه إيهود باراك على إسرائيل، والذي يعبّر عن نظرتها وأغلبية سكانها اليهود إلى المشرق العربي. فمن حولهم الهمجية والخراب والتخلّف والأصولية، بينما هم هنا فقط- في "فيللتهم"- المتحضرون والمتقدمون. وقد أراد باراك بتعبيره هذا التأكيد بشكل خاص أن إسرائيل في "الشرق البدائي المتخلف" تمثل "الغرب المتحضر".

ومقولة باراك ليست جديدة بل إنها ذريعة قديمة معروفة تتكرّر عندما يقول غيره من زعماء إسرائيل "نحن لا نعيش في سويسرا أو اسكندنافيا، وإنما في الشرق الأوسط"!

وزعماء الحركة الصهيونية في الماضي كانوا أيضًا ممتلئين بالاستعلاء والغطرسة تجاه محيطهم. وهما سمتان وقفتا وراء تدريب أعينهم على عدم الرؤية، أو على ما يسميه البعض العمى الانتقائي، وعلى تجاهل ألم ومطالب الناس الآخرين الذين عاشوا قبلهم في المحيط عينه.

فقد أكد ماكس نورداو المساعد الأول لهرتسل، في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، أن شعوب آسيا "منحطة".

وديفيد بن- غوريون أراد نشر وبعث النور للغرباء من خلال الفيللا، ومن داخلها خرج بالفكرة العجيبة عن "الشعب الفريد من نوعه" (شعب الله المختار).

وفي أحد خطاباته أمام مؤتمر "إيباك" في الولايات المتحدة، شدّد نتنياهو على أن إسرائيل "ممثلة الإنسانية والرحمة وقوة الخير في منطقة الشرق الأوسط التي تنهشها صور القتل والوحشية". وورد تشديده هذا غداة شيوع تحليلات متطابقة تشير إلى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أصبح أكثر ميلًا (أو تفهمًا في أحسن الأحوال) لتبني الموقف الفلسطيني، وبات يرى أن الطرف الإسرائيلي يتجاهل مبادئ أساسية لحقوق الإنسان. 


"الأسرلة" عالميًا
إذا كان "مؤتمر الأمن الدولي" يعدّ الأهم في العالم للعلاقات الخارجية والاستخبارات والأمن، فإن وقائع دورته الأخيرة التي عقدت في ميونيخ [ألمانيا] هذا الشهر، كانت بمثابة مؤشر إلى قدر كبير من قبول "الأسرلة".

وبحسب التقارير المنشورة عن المؤتمر، لم يحاول أحد الادعاء أن لإسرائيل علاقة بالفوضى العارمة التي تهدّد النظام العالمي، والناجمة عن تنظيم "داعش"، والعدوانية الروسية في أوكرانيا وفي سورية، وأزمة اللاجئين، ما أعطى الانطباع بأن صلة إسرائيل بهذه التهديدات هامشية إن لم تكن معدومة. كذلك لم تُطرح القضية الفلسطينية في أي جلسة من جلسات المؤتمر، كما لم تُذكر بتاتًا.

وخلصت إسرائيل من هذه الوقائع إلى ما يلي: إذا كان مؤتمر ميونيخ مؤشرًا إلى ما يحدث في العالم الدبلوماسي والعلاقات الدولية، يمكن القول إنه في سنة 2016 لم يعد أحد معنيًا بالفلسطينيين. فأوروبا تواجه مشكلات أخرى أصعب وأكثر أهمية بكثير. ومن الصعب افتراض أنه في العالم الجديد سيكون على الكرة الأرضية أحد لديه الوقت والموارد أو الرغبة من أجل ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل.

وإذا ما أضفنا إلى هذا كله مراوحة ما عرف بالحاضنة العربية للفلسطينيين في أضعف حالاتها، وعدم نجاح جهود استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، تزداد سُحُب التشاؤم تلبدًّا.

برغم هذا الوضع التعيس، يبقى ثمة سبب جوهري يدعو للتفاؤل، يكمن بحقيقة أن قوة المقاومة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني ومخزونها لا يفنيان ولا ينضبان، وتتحول هذه المقاومة من شكل إلى آخر، ودومًا تنتهز الفرصة السانحة لتتفجر وتتجدد وتستعيد دورها التصحيحي بصرف النظر عن شكل الانفجار.

وتنعكس هذه المقاومة لا على فلسطين فحسب وإنما أيضًا على العالم أجمع، من خلال نقل آفاق الاستجابة لتحدّي القضية الفلسطينية إلى الحلبة الدولية.

ويتمثل أهم أفق لهذه الاستجابة في الوصل بين ما يجري على الأرض وبين المطالب السياسية الفلسطينية.

وهو وصل يعني إخفاق "الأسرلة" التي تحرص على أن تسوّق رواية تقول إن ما يجري من عمليات مقاومة سواء دهس أو طعن أو إطلاق نار، هي نتاج مظاهر كراهية أو تحريض، وليست أعمال مقاومة مرتبطة بالخطاب السياسي الفلسطيني المتعلق بالحقوق والعدالة.


(كاتب وباحث فلسطيني/ عكا)