مفهوم الاستخبارات وأهميتها

مفهوم الاستخبارات وأهميتها

02 مايو 2020
+ الخط -
تُصور لنا روايات وأفلام الجاسوسية عالم الاستخبارات كمجال فائق الدّقة والإتقان يكاد يخلو من الأخطاء والتحديات. فارتسمت في مخيلة عامة الناس أن الاستخبارات تعني جواسيس فائقي الذكاء، والاستخبارات تسيطر وتتحكم في كل تفاصيل الدول أثناء السلم وخلال الحرب. غير أن الواقع يختلف كثيرا عن هذه الصورة فجهاز الاستخبارات مثله مثل أي جهاز أمني آخر له نقائص وتحديات قد تحدّ من فعاليته ونجاعة عملياته.
يتفق الكثير من الباحثين على أنه يصعب تقديم تعريف مُوحد للاستخبارات لطبيعة عمل هذا الجهاز. يُشير كل من بيتر جاكسون وجنيفر سيج "محاولات الإتيان بتعريف للاستخبارات فشلت في إيجاد إجماع حقيقي". لكنهما في نفس الوقت طرحا مقاربتين في فهم طبيعة ودور الاستخبارات. "الأول يركز على فهم الاستخبارات أولا وبشكل رئيسي كمعلومات بينما يتجه الثاني لفهمها كعملية معالجة" وحسب روجر جورج "الاستخبارات هي في الغالب معلومات سرية يتم تجميعها من خلال عمليات سرية أو بواسطة أنظمة تقنية". من هنا يمكن القول إن الاستخبارات هي عملية معالجة المعلومات بطريقة منهجية لتزويد صناع القرار بها من أجل توفير أفضل الخيارات وتقليل نسبة الشك لديهم تجاه الخطط واستراتيجية العمل وتستعمل في ذلك عناصر بشرية و تقنية.

عوامل محدودية الاستخبارات
1. العامل السياسي: الاستخبارات تقوم على عدة عمليات ومراحل من أهمها جمع المعلومات وتحليلها والمهمات الخاصة، فالاستخبارات الأميركية مثلا، تتكون من آلاف البرامج الفيدرالية وآلاف الأفراد العاملين في الحكومة. بمعنى آخر الاستخبارات الأميركية ليست هي CIA فقط بل تشمل وكالة الأمن الوطني ومكتب الاستطلاع الوطني ووكالة الاستخبارات Geospatial-intelligence. لكل هذه المؤسسات وظيفة محددة: أما وكالة الاستخبارات المركزية CIA فهي الفرع المسؤول على تجنيد العملاء. من خلال هذا المثال يمكن القول إن الاستخبارات تعمل في مجالات مختلفة وتخضع لسلط متفرقة. لكن يبقى القرار السياسي هو السائد على بقية القرارات. وقد برز التأثير السياسي في الاستخبارات في فترة الحرب الباردة ومن أبرز الأمثلة المعروفة الخلاف الذي حصل بين الأمن والدفاع في أميركا حول bomber gap and mssile gap في الخمسينيات والستينيات. تحول هذا الصراع الداخلي بين الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى توظيف سياسي حيث اتهمت وزارة الدفاع بتهويل قدرة الاتحاد السوفييتي النووية من أجل استباق إجراءات تخفيض إنفاق المؤسسة العسكرية.

في بعض الحالات لا يقتصر القرار السياسي على رأس الدولة، بل يشمل أحيانا الأحزاب وأيديولوجياتها. ففي منتصف السبعينيات عيّن الرئيس فورد ما يسمى B Team والذي ضمّ خبراء محافظين من خارج ميدان المخابرات. أدى هذا التعيين الى سيطرة الكراهية الأيديولوجية للاتحاد السوفييتي على توقعات الخطر النووي. أحينا نوظف الاستخبارات لإضفاء الشرعية على قرارات سياسية خاطئة. استعملت كل من الحكومة البريطانية والأميركية الاستخبارات من أجل الحصول على دعم شعبي لغزو العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل في 2003. وقد شكل تقرير الاستخبارات الذي شُنت من أجله الحرب فشلا كبيرا في تاريخ الاستخبارات. يمكن القول إنه في هذه الحالة عوضا أن يكون جهاز الاستخبارات مرجعا للتوجيه والإرشاد بالنسبة لصناع القرار، تحول إلى وسيلة في يد السياسيين لتدعيم رؤيتهم الخاصة.


2. العامل البشري: يعتبر العنصر البشري في جهاز الاستخبارات أهم عنصر، فهو المحرك والمتحكم في كل العمليات وفي اتخاذ القرارات. وبما أن الاستخبارات تقوم أساسا على جمع وتحليل المعلومات كما هو مبين في التعريف السابق. فإن ذلك يعني أن اتخاذ القرار يقوم على الفهم البشري لنوايا الجهة المستهدفة أي العدو أو الخصم أو حتى الحليف. القصور الذهني للبشر وسوء استعمال المواد الاستخباراتية يؤثر بشكل مباشر على نجاعة وفاعلية أجهزت الاستخبارات. فمن أكثر أسباب فشل المخابرات المتكرر هو الحكم الخاطئ على النوايا وذلك بالتقليل من الخطر أو المبالغة فيه. تسبب سوء تقدير الاستخبارات الإسرائيلية لقدرات مصر سنة 1973 في هزيمة مدمرة.

بالرجوع إلى المعجم التاريخي لفشل الاستخبارات نجد عدّة تقارير لسنوات مختلفة تحذر من عمل إرهابي باستخدام الطائرات داخل التراب الأميركي. ولكن فشل كل من CIA وFBI راجع لعدم تنسيق المعلومات فيما بينهما وغياب إدراك حقيقي للخطر بواقعية أكثر. وهو ما سمح بحدوث هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001.

رغم ما يعرف عن معهد الاستخبارات والعمليات الخاصة الإسرائيلي، الموساد، من حرفية عالية وتخطيط محكم. أدت بعض الأخطاء البشرية الى المس بسمعة هذا الجهاز وأحيانا تسببت في تأزم العلاقات الدبلوماسية مع دول. كشف جهاز أمني قبرصي صغير محاولة الموساد إنشاء قاعدة تجسس في قبرص خلال التسعينيات عن طريق عميلين كانا متخفيين بصفة "مدرّسين يقضيان عطلتهما''. باكتشاف الأجهزة والمعدات عالية التقنية في شقة العميلين اندلعت أزمة سياسية بين قبرص وإسرائيل. جانب آخر من الفشل المرتبط بالكفاءة البشرية هو التسريبات، حيث تم تسريب خطة لاغتيال صدام حسين إلى صحافي إسرائيلي منتصف التسعينيات.

أهم تحديات الاستخبارات في الوقت الحاضر
بالرغم من أن الأداء البشري والقرار السياسي يمثلان أهم عوامل التأثير المباشر في العملية الاستخباراتية، فإن تحديات قديمة وأخرى حديثة لها تأثير قوي على فعالية الاستخبارات. التحدي الأول يشمل الدول الديمقراطية، وهو سرية جهاز الاستخبارات في زمن الشفافية العامة التي يفرضها القانون. هناك تحد آخر خارج عن الخطأ البشري المباشر، لكنه مرتبط به، وهو عامل الصدفة. المقصود بعامل الصدفة هنا هو الإخفاق أو النجاح بسبب الظروف الخارجة عن قدرة الجهاز نفسه. كمثال توضيحي يمكن الإشارة إلى حادثتين للموساد واحدة ناجحة والأخرى فاشلة. كان فريق الموساد قد نسق مع الاستخبارات التركية لاعتقال عبد الله أوجلان في روما، وتم تحديد خطة لذلك، وبينما كان عملاء الموساد يتتبعونه في كل من البرتغال وإسبانيا والمغرب وتونس، منع الأمن الهولندي أوجلان من دخول هولندا في مطار شيبول سنة 1999 وأعلم الموساد بتوجهه الى نيروبي. وبعد القبض عليه نسب النجاح للاستخبارات التركية. وفي حادثة أخرى وقعت قرب نفس المطار سنة 1992 تتمثل في تحطم طائرة العال الإسرائيلية، تبين من فحص الحطام أنها كانت تحمل مواد نووية كانت ستهرب إلى تل أبيب. اتهمت الموساد وشركة الطيران التجارية العال، وسببت مواجهة حادة مع إنتل أو الاستخبارات الهولندية. في هذه الحالة المذكورة لعبت الصدفة دورا في كشف العملية السرية. مع ذلك يبقى العامل البشري مهما في إخفاء الأثر وإيجاد حلول سريعة.

بالنسبة للحكومات الديمقراطية وأجهزتها الاستخباراتية فإن الحرب على الإرهاب هو تحد حقوقي لها. لتوضيح المسألة يشير ستيف تسانغ (Steve (Tsang إلى الواقع البشع الذي قد يواجه الأجهزة الحكومية التي تستبق أو توقف هجوما انتحاريا مروعا وتعتمد في ذلك على بعض الطرق التي تهين المدافعين عن حقوق الإنسان. تعتبر العمليات الانتحارية من أصعب الهجمات التي يمكن التعامل معها وفي مجال الاستخبارات فقد خلق استعمال الهجمات الانتحارية من قبل المجموعات الإرهابية أزمة في كيفية التعامل معها أمنيا. عند توفر المعلومات عن انتحاري مشتبه به فإن الأسلوب المتبع لدى أجهزة الاستخبارات هو إطلاق النار على المشتبه فيه. يكون قتل أو جرح الانتحاري نجاحا استخباراتيا في حالة كانت المعلومات دقيقة. لكن في صورة ما قتل الشخص الخطأ جراء معلومات خاطئة قد يسبب احتجاجات شعبية وهو ما حدث في لندن سنة 2005 عندما اغتال جهاز الاستخبارات جان شارلو دي منازس (Jean Charles de Menezes) . وهو مواطن برازيلي يشتغل كهربائيا اشتبه بأنه إرهابي بعد عمليات تفجير مترو أنفاق لندن.

تحدي كورونا
يثير ظهور وباء كورونا تساؤلات حول كيفية عمل الاستخبارات في ظل إغلاق المطارات ومنع التجول والحجر الصحي وكل إجراءات الوقاية من الفيروس التي تفرض التباعد الاجتماعي بين الأشخاص. كل هذه الأمور تمثل تحديا للاستخبارات، خاصة في مرحلة تجنيد العملاء. فقواعد العملية الناجحة في عالم التجسس تقوم على تحديد الأشخاص المستهدفين بعناية فائقة وعادة ما يتم التعرف على الشخص المناسب الذي قد تنطبق عليه شروط تجنيد العملاء في الحفلات والخمارات وصالات القمار والسجون والتظاهرات الكبرى، باختصار كل الأماكن التي تتميز بالتجمعات البشرية. يتم اصطياد الهدف بمعرفة النقاط الحساسة لديه، وهي: المال والاهتمام والاحترام والثأر والأهمية والمثالية. ولا بد للعميل أن يكون له القدرة على الوصول إلى معلومات مهمة في الدولة الأخرى. يربط العميل بشبكة من الضباط والمختصين في تحليل البيانات من ضابط أو مجموعة ضباط مسؤولين عنه أو عنها بطريقة مباشرة وتكون اللقاءات سرية في نفس الدولة أو خارجها. والسرية هنا تعني إخفاء الهوية لضابط وقد يتم اللقاء في مكان عام كالمطاعم والمتنزهات والحدائق العامة. وفي كثير من الأحيان يسافر العميل إلى خارج البلد بعد ترتيب لقاء مع مسؤوليه المباشرين وغير المباشرين. القرب الجسدي للعميل ضروري جدا لتتبع سير العمل وإرسال تقارير عنه ومنه. كل هذه الأساليب أصبحت غير قابلة للتنفيذ في زمن كورونا. ورغم التقدم التكنولوجي الهائل في مجال الاتصال عن بعد إلا أنه يمثل قناة غير مؤمنة بالنسبة لكثير من العمليات الاستخباراتية. قد تكشف الأيام القادمة عن أساليب وتقنيات جديدة في عالم تجنيد الجواسيس في حقبة ما بعد كورونا.