مفكرة المترجم: مع نوفل نيوف

مفكرة المترجم: مع نوفل نيوف

26 مارس 2020
(نوفل نيوف)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "كثيراً ما تكون الترجمة في ثقافتنا اعتباطية؛ بحيث يُترجَم نفس الكتاب عدة مرات من دون أن يُبدي المترجم الجديد أي اهتمام بذلك"، يقول المترجم السوري.


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟

- لعلّ جذور رغبةٍ أولى، غامضة، بالترجمة تعود إلى "غُربال" ميخائيل نُعيمة في سن المراهقة. عزّز تلك الرغبةَ ولَعي المبكِّر باللغة والشعر العربيين، وغذّتها ومنحَتْها مقوّمات الحياة دراستي اللغة الروسية وآدابها في جامعة ليننغراد (سان بطرسبورغ، اليوم).

كنتُ أترجم لنفسي مقاطع أو فقرات أو أبيات شعر تعجبني، لأختبر ما يبقى منها بعد ترجمتي التي كانت ما تزال في مرحلة الرضاع. لم أختر الترجمة "مهنة"، لكنّ قانون "الرياح والسفُن" لعب لعبته. بمرور الزمن تبلورت تلك الرغبة، صقلتها تجربة سنوات طويلة من الممارسة لم تنقطع خلال زمن دراستي العليا في "جامعة موسكو،" وسنوات أمضيتها في تدريس اللغة الروسية في الجامعات، وما تزال مستمرة حتى اليوم.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- آخر ترجمة نشرتها هي مذكّرات ليديا أفيلوفا؛ "تشيخوف في حياتي: قصّة حبّي"، وصدرت عن "دار فواصل" في اللاذقية، في 2019. أشارك الآن في مشروع ترجمة روايات لليافعين من الأدب الروسي الحديث، يُفترض أن تبدأ بالصدور بعد شهر من الآن.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- العقبات التي يواجهها المترجم العربي كثيرة ومتشعبة، ربما ساعَد وجود الإنترنت على تخطّي جزء منها لا يستهان به. أشير إلى القليل من هذه العقبات... أعتقد أن قواميس اللغة العربية، على أهميتها البالغة، ما تزال مقصّرة جداً في الاستجابة لمتطلّبات الحياة والثقافة في العالم اليوم. ليس هناك جهات متخصصة لمتابعة كثير مما بات موجوداً أو مما يستجدّ من مفاهيم ومصطلحات، بل ومفردات وتعابير في حياة البلدان المتطوِّرة وثقافتها ولغاتها. من هنا يأتي غياب الإجماع على تبنّي مقابل عربي معتمَد (حتى على أبسط الأشياء: طريقة كتابة الأسماء الأجنبية!).

كثيراً ما تواجهني، مثلاً، مشكلة في ترجمة أسماء الحيوانات والنباتات الغريبة على بيئتنا وثقافتنا العربية. اعتباطية الترجمة مشكلة أخرى تواجه المترجم والقارئ معاً. إذ كثيراً ما يترجَم كتاب أو عمل إبداعي، من أي جنس أدبي، عدة مرات في بلد واحد، أو في عدة بلدان من دون أن يُبدي المترجم الجديد أي اهتمام بمعرفة ذلك، وإذا عرف لا يقرأ ليضيف جديداً إلى الترجمة التي سبقته. يقترن بهذه الاعتباطية ويعزّزها غياب التقييم النقدي لِما يترجَم. فمعظم ما يدّعي المراجعة والتقييم لا يعدو كونه حبراً على ورق. تضيع قيمة الترجمة الجيدة، ويفقد القارئ البوصلة.


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- هذا يقودنا إلى مسألة ضرورية، بل بالغة الإلحاح والأهمية: التحرير، وأقلّه تصويبُ الأخطاء اللغوية والطباعية، أو مراجعة الترجمة نحْواً وأسلوباً وأمانة... ما أزال أذكر الدكتور سعد مصلوح بالشكر على مراجعته ترجمتي لكتاب غيورغي غاتشِف "الوعي والفن" الصادر عن "عالم المعرفة" في 1990. إنما هناك مؤسسات ثقافية مهمّة، ودور نشر لها تاريخ، بعضها عبثاً يثبِّت اسم (المُراجع أو المدقِّق اللغوي) على كتبٍ مليئة بالأخطاء من كل نوع!


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- نادراً ما واجهتُ ما يمكن وصفه بـ"مشكلة" مع دور النشر الرسمية أو الخاصة على حدٍّ سواء. حدثت لي مواقف لا تُحمد (ليس مجالها هنا)، واختلافات يسيرة وعاديّة، لا أكثر، مع بعض دور النشر. ربما يعود ذلك في جزء كبير منه إلى أنني كنت دائماً مَن يختار الكتاب، ولم أترجم بطلب إطلاقاً قبل مشاركتي الراهنة في مشروع الترجمة الذي ذكرته قبل قليل.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- الاعتبارات السياسية الكبرى، لا الحزبية الضيقة، حاضرة طبعاً عند اختياري كتاباً فكرياً أو سياسياً لأترجمه. لكن هذا لا يمنعني من ترجمة عمل أدبي فيه كثير مما يخالف وجهات نظري السياسية أو غيرها. لي أن أتحفّظ على بعض الجوانب أو الأفكار فأعبِّر عن ذلك في المقدمة، مثلاً. أمّا التدخل في نص المؤلِّف، أو تعديله، أو الإضافة إليه، أو حذف/ تغييب جزء منه، فذلك خيانة وتضليل صريحان. الأدب والفكر، في هذا السياق، مجالان مختلفان كثيراً.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- أن أكون مَن يختار ما أترجم يعني الانحياز/ التفضيل سلَفاً إلى الكتاب، بل وأقلُّه إلى التعاطف مع مؤلِّفه في الأغلب. لا بدّ أن ينال الكتاب، مادّةُ الترجمة عموماً، إعجابي وتقديري لِما يبدو لي فيه من جديد، عميق، مميّز. وإلا انعدم وجود الدافع لترجمته.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- أترجم كأني أكتب نَصّي. لا بمعنى تجميل الموضوع أو تطويعه لمزاجي وأهوائي، إطلاقاً! بل بالعناية نفسها، بالقدْر نفسه من التأملِ والموازنة وتقليب الكلمة أو العبارة، (من "التحكيك"، إذا شئت)، بل وبانتباهٍ شديد إلى استخدام علامات الترقيم أيضاً.


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- أرى أن جوائز الترجمة، كغيرها من الجوائز في المجالات الأخرى، ظاهرة صحّية، ومشجِّعة، وضرورية بكل المعاني للمنتِج وللمتلقّي، أيّاً كانت المآخذ عليها (وبعضها صائبٌ، ومفيدٌ قوله). أشير فقط إلى نقطة صغيرة ولكنها تستوقفني: أعرف كثيرين دخلوا دائرة القراءة وصاروا قرّاء دائمين أو متمرّسين بدافع أوّليّ واحد هو الفضول: فلنقرأ ما كتبه/ ترجمه فلان من الناس ونال عليه مكافأة مالية وشهرة. وهذا مكسبٌ ثمين للثقافة والترجمة، للتنوير عموماً، أقدِّره عالياً. وبالمناسبة، أستغرب عدم وجود جوائز لدور النشر الخاصة التي تستحق، إن لم تكن موجودة بعد.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- ترجمة الأفراد، وترجمة المؤسسات الرسمية والخاصة كلّها مشروعة ويجب دعمها. ما أعتقد بضرورته وجدواه هو، باختصار، أن تدرك هذه الجهات مسؤوليتها الثقافية. وأن يكون ما تنشره مادة للنقد والتقييم في ندوات ومؤتمرات متخصصة، وفي برامج ثقافية دورية في وسائل الإعلام المرئي والمسموع، الورقي والإلكتروني. نحن أشبه ما نكون بجسم ضخمٍ تنهكه الأمراض والأوجاع. ندرك الحاجة للعلاج، ونرفض أن يمسّنا أحد بإصبع، أو يفحص عيّنة من دمنا، أو يبتر عضواً تالفاً. هكذا نحن في الثقافة أيضاً، نكره من يشير إلى أخطائنا، أو جرائمنا أحياناً. ونصرخ أننا أصحّاء، معافون.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- لعلّه ليس عندي قواعد أو عادات صارمة، حين أمارس الترجمة. كل ما أحتاج إليه هو الهدوء والعزلة، ونادراً شيء من الموسيقى، لا من الغناء. خارج العمل المؤسساتي، الجماعي، في غربتي الطويلة، في غياب الجوّ والناس وألفة المكان، والثقةِ بوجود مكان لائق للنشر، أشتغل طول الوقت، بالمعني الحرفي للكلمة. إنما أشتغل وَفقاً لمزاجي، أتشتت، أبدأ مشاريع وأنتقل إلى غيرها. أخسر كثيراً من الوقت والتركيز والجهد. هكذا تتسرّب الحياة.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لا أندم على شيء ترجمته. بالعكس، هناك أشياء أعتزّ بها، كأني مؤلّفها.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- ما أتمنّاه للترجمة إلى العربية هو الخروج من هذا الجحيم الدامي إلى استقرار آمن. رغم كل شيء، أؤمن بالإنسان العربي، كأي إنسان غيره، بطاقاته وقدرته على العطاء، ومواكبة الحضارة والعصر. نحتاج الاستقرار، الأمان، قليلاً من الحرية، ما يكفي من الهواء للحياة.


بطاقة

كاتب ومترجم سوري من مواليد عام 1948، ويقيم حالياً في مونتريال بكندا. حاز دكتوراه في "نظرية الأدب" من جامعة موسكو 1984، عمل أستاذاً جامعياً، ونشر رواية ومجموعة شعرية وأخرى قصصية، وكتاباً نقدياً، وآخر في السياسة بعنوان "روسيا من الداخل".

من ترجماته: "قلب كلب" لـ ميخائيل بولغاكوف، و"يهوذا الإسخريوطي" و"كتاب الجنون" لـ ليونيد أندرييف، و"الوعي والفن" لـ غيورغي غاتشِف، و"كل شيء عن الحب" لنَديجدا طيفي، و"لغز عمره ثلاثة آلاف عام" لـ إ. شفريفتش، و"الرايات البيضاء" لـ نودار دومبادزه بالاشتراك مع عادل إسماعيل. حصل على "جائزة الشيخ حمد للترجمة" عام 2019.

المساهمون