مغامرات سبيلبيرغ: بريق الشباب

مغامرات سبيلبيرغ: بريق الشباب

20 ابريل 2018
ستيفن سبيلبيرغ (فيسبوك)
+ الخط -
لأربعة عقود متتالية من المسار المهنيّ للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ (1946)، كان أكثر ما يميّزه دائمًا قدرته على صناعة الدهشة، وقيادة ملايين المُشاهدين إلى أجواء لم يسبق لهم رؤيتها أو مشاهدتها. عوالم من الخيال، وأحداث متلاحقة لا تتوقف. 

فَضله على "الخيال العلمي" لا يُضاهى. روائعه الباكرة، كـ"لقاءات قريبة من النوع الثالث" (1977) و"إي. تي. الكائن الفضائي" (1982)، انطلقت من نقطة لم يسبق لمبدع آخر الاهتمام بها: "ماذا لو لم يكن الفضاء عدوًا؟"، مع بصمة بصرية ولحظات لا تبارح ذاكرة المشاهدين. من يمكنه نسيان عجلة "إي. تي." وأصدقائه الأطفال، وفي خلفية المشهد القمر اللامع الكبير؟

في المتبقي من ثمانينيات القرن الـ20، وضع سبيلبيرغ بصمة أخرى في سينما المغامرات، وتحديدًا مع سلسلة "إنديانا جونز" بأجزائها الـ3 (1981، 1984، 1989)، جاعلاً بطله (هاريسون فورد، 1942) إحدى أشهر شخصيات السينما على الإطلاق. هذا قبل أن تستمر رحلة "المغامرات/ الخيال العلمي" في التسعينيات الفائتة، مع "حديقة الديناصورات"، خصوصًا الجزء الأول (1993)، أنجح فيلم سينمائي عند عرضه التجاريّ، بينما كان الجزء الثاني (1997) الأقل نجاحًا حينها.

في تلك الفترة، ظلّ خيال ستيفن سبيلبيرغ وحيويته حاضِرَين بقوة، مُقدِّمًا بفضلهما فيلمين يُعتبران من أفضل أفلام الصنف في العقدين الأخيرين: "الذكاء الاصطناعي" (2001)، وهو مشروع أراد ستانلي كيوبريك (1928 ـ 1999) إخراجه، قبل أن ينتقل إلى سبيلبيرغ بعد وفاته، و"تقرير الأقلية" (2002)، الذي يقدّم صورة فريدة ومختلفة للعالم عام 2054، مع امتلاك الشرطة قدرة التنبؤ بالجرائم قبل حدوثها.




بعد تلك اللحظة، لم يعد سبيلبيرغ حيويًا وذا خيال خصب وحاضر في سينما المغامرات والخيال العلمي كذي قبل. بدا أن الرجل، الذي بلغ عامه الـ60 (يومها)، قد نَضَبت مخيّلته. حاول ـ على مدى أكثر من عقد ـ إعادة إنتاج خياله في أفلام تقليدية ومكرّرة، لم تنل نجاحًا: "حرب العوالم" (2005)، والجزء الرابع من "إنديانا جونز" (2008)، و"مغامرات تن تن: سرّ أونيكورن" (2011)، وصولاً إلى "The BFG" (2016)، الذي كان مجرّد إعادة صنع "إي. تي." مجدّدًا، مع الكاتبة نفسها (ميليسا ماتيسن)، والعلاقة نفسها بين كائن غريب وأطفال. لكن الفيلم فشل نقديًا وجماهيريًا بشكل كبير.

لهذا كلّه، لم يكن الفيلم الجديد لستيفن سبيلبيرغ، Ready Player One، مُنتظَرًا بقوّة، قبل أن تحدث المفاجأة مع عروضه التجارية، إذْ احتل قمّة شباك التذاكر، وكُتِبَت عنه مقالات نقدية جيدة جدًا، والأهم أنه ـ في ساعتين و20 دقيقة ـ عاد المخرج، وهو في الـ72 من عمره، شابًا ممتلئًا بالحيوية، وقادرًا مجدّدًا على صنع الدهشة، وتقديم صورة وعالم لم نر مثلهما من قبل.

منذ الثانية الأولى من فيلمه الجديد، يؤسّس ستيفن سبيلبيرغ للمكان الذي تدور فيه الأحداث: "ديستوبيا" مستقبلية، عام 2045. العالم الحقيقي مكان مُوحش جدًا، وعبارة عن ركام لا ينتهي، بينما يهرب الناس إلى "الواحة"، اللعبة العملاقة التي يعيش داخلها الجميع بشخصيات افتراضية. يذهبون إلى مكان ويفعلون أي شيء، ويحاولون أيضًا الوصول إلى "البيضة الذهبية"، التي خبّأها مخترع اللعبة الملياردير الراحل جيمس هوليداي. من يصل إليها ـ بعد المرور في 3 اختبارات مستحيلة ـ يكن "مالك الواحة الجديد". يحاول وايد واتس (بشخصيته الافتراضية بارزيفال) وأصدقاؤه داخل اللعبة حلّ الألغاز، بهدف الوصول إلى "البيضة الذهبية" تلك، قبل أن يستطيع نولان سورينتو وشركته الأخرى العملاقة الوصول إليها والحصول على الواحة، ما يجعل الوضع في العالم الحقيقي يزداد سوءًا.

هذا الكمّ الكبير من التفاصيل والمعلومات يُلقى سريعًا على المُشاهدين في أول ربع ساعة فقط، من خلال "فوتومونتاج" طويل وتعليق صوتي شارح للبطل. صحيح أنها قد تكون وسيلة سينمائية ضعيفة، لكن سبيلبيرغ يفعل ذلك لأن الأهم بالنسبة إليه هو المغامرة الماراثونية التي تبدأ بعد ذلك، في العالم الحقيقي أو داخل اللعبة الافتراضية، والتي لن تتنهي إلا مع الجينيريك الختامي للفيلم.

هذه أولى مميّزات الفيلم: الحيوية المفرطة التي تغلّف كلّ ثانية في أحداثه، والتفاصيل المشبعة في كلّ جوانب الصراع، والإيقاع اللاهث الذي لا يمنع تطوّر الدراما ومشاعر الشخصيات. أمر قريب مما فعله المخرج جورج ميلر (1945) قبل 3 أعوام، في "ماكس المجنون: طريق الغضب" (2015). لكن، بدلاً من صحراء وسيارات، فإن مغامرة سبيلبيرغ خيال محض،، ومزيج بين عالم حقيقي وشخصيات كرتونية في واقع افتراضي مع اختبارات كحكايات الأطفال.

الميزة الثانية قدرة ستيفن سبيلبيرغ على "استثمار الحنين" بشكل فعّال جدًا، لأن عمله الجديد ـ في أحد جوانبه ـ احتفاء بذكرياته الشخصية، والثقافة الأميركية الشعبية في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، بمزيج من ألعاب وموسيقى وأزياء وشخصيات وديكورات يضخّها سبيلبيرغ في فيلمه. قبل كلّ شيء، يضخّ تفاصيل من الأفلام، لأن "اللاعب الأول يستعد" هو عمل بإشارات وتحيات لا تنتهي لأعمالٍ أخرى، إذْ يستغل سبيلبيرغ فكرة الصانع الذي يخلق عالمًا (كما يصنع هوليداي الواحة، أو كما يصنع المخرج فيلمه)، ليجمع فيه كلّ ما ومن يحبّ من شخصياتٍ وأفكار وتفاصيل، أبرزها التتابع في The Shining (1980) لستانلي كيوبريك، ومن ورائه أكثر من 50 فيلمًا يقدّم لها تحيات وذكرا عابرا. والأهم أنه يجعل تلك التفاصيل تتداخل مع مغامرة أبطاله، ولا تكون تحية منفصلة عن الدراما أو المغامرة.

هذا الفيلم حدث سينمائي، لأنه يشهد استعادة أحد أفضل مخرجي السينما في تاريخها لبريقه المفقود منذ أكثر من عقد، بتقديمه عملاً ذكيًا وممتعًا ومُدهشًا، يملأه بالخيال والذكريات، كأفلامه الكلاسيكية الكبرى. إنه احتفاء بالصداقة وقصص الحب الطفولية، وبالصراع التقليدي بين الخير والشر، الذي ينتهي حتمًا بانتصار الأخيار، في عمل ربما سيكون الأفضل من بين ما قدمته السينما منذ مطلع 2018 لغاية الآن.

المساهمون