Skip to main content
مع جميل حتمل في لندن
أمجد ناصر
هدأ روع جميل جتمل عندما وجد جواز سفره..
بعدما تركت عملي في مجلة سينمائية، جئت إلى لندن مديراً لتحريرها، صار علي البحث عن مكان آخر. بيت أجرته أقل.. بكثيرٍ إن أمكن. فكانت الساوث هول، الملاصقة لهيز، ولكن ذات الغلبة الهندية. كانت هذه المنطقة هي التي نتبضّع منها الخضر واللحوم الحلال والحبوب والبهارات وزيت الزيتون (كان يباع في الصيدليات الإنكليزية!) والخبز العربي. كل ما هو في ساوث هول من شبه الجزيرة الهندية باستثناء الطقس. غير ذلك كل شيء هندي من الساري والعمامة وخناجر السيخ وأعلامهم البرتقالية إلى المانغا والأرز البسمتي والبخور الذي يفوح من كل دكان، وبيت، في ساوث هول. إذن، هذه هي منطقتي الجديدة التي يسمّيها الإعلام البريطاني: الهند الصغيرة. هنا سنستقر. وهذا ما صار. سكنت في بيت صغير، كان كوخا إنكليزياً في الأصل يعود عمره إلى عام 1880. كان واضحاً لي أنه يعود إلى هذه الفترة. فالحمام أضيف إلى البيت لاحقاً.
*
كان سكنانا في "بيتنا" (أو كوخنا الإنكليزي القديم) مختلفاً عن "بيتنا" السابق في هيز. الوجوه، الروائح، طبائع الناس، الأعياد العديدة لطوائف الهند الكثيرة. وكان هذا مبعث دهشةٍ حيناً واستياء حيناً آخر. لكن أسوأ ما يمكن أن يحدث في لندن، مترامية الأطراف، حدث معنا سريعاً: سرقة بيتنا. سافرت زوجتي، برفقة ولديَّ، إلى قبرص لزيارة عائلتها هناك، وجاء صديقي الكاتب السوري الراحل، جميل حتمل، الذي كان يقيم في باريس، ليبقى معي بضعة أيام. ولمّا كان صديقنا المشترك نوري الجراح يقيم في منطقة وود غرين، في شمال لندن، بين القبارصة اليونانيين والأتراك الذين لم يعد يضمهم حيزٌ واحدٌ بعد الاجتياح التركي للجزيرة وتقسيمها إلى قسمين: يوناني وتركي، فقد زرناه في بيته، فأكلنا وشربنا وتأخر بنا الوقت فنمنا عنده. في اليوم التالي، عدنا، جميل حتمل وأنا، إلى بيتي في ساوث هول، فوجدنا البيت مخلًّع الباب، منهوب المحتويات. وبما أنني لست من الذين يملكون الكثير، خصوصا ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، فلم يجد اللصوص سوى بعض آلات كهربائية وذهبيات صغيرة تخصّ ابنتي، وكاميرا جميل حتمل وعدساتها، فأتوا عليها وذهبوا إلى حاناتهم آمنين. لكن الطريف في أمر هؤلاء اللصوص "النبلاء" أنهم تركوا أغلى ما يملكه عربي مهاجر، بل أغلى ما يملكه عربي في هذه اللحظة "الحرجة" من مصير "أمتنا": جواز السفر.
لم يهدأ روع جميل، ولم تعد الدماء إلى وجهه، ولم تسكن ضربات قلبه العليل إلا عندما وجد جواز سفره إلى جانب قصص قصيرة ومشاريع كتابات رتّبها اللصوص بعناية في إحدى زوايا غرفة الجلوس. ولمّا رأى جميل نسره السوري المسكين مطبوعاً على غلاف جواز السفر تنهَّد الصعداء، أما أنا فكان جواز سفري في جيب سترتي، أتفقّده، كلما ضاقت في وجهي السبل، بين حين وآخر. لكن القصة لم تنته عند هذا الحد. فقد وجد اللصوص خنجراً يمنياً، دأبتُ على وضعه تحت مخدّتي، تحسباً للطوارئ، فـ "طعجوه" ووضعوه على مدخل الدرج الذي يؤدي إلى غرف النوم. ها هو خنجرك اليمني الذي لم ينفعك، لقد جنّبناك سوء استخدامه. فكَّرت أن هذه رسالة اللصوص "النبلاء" إلي.
ليست سرقة بعض المحتويات من بيت مهاجر لا يملك شيئاً، حتى أثاث بيته، هو ما يزعج في سرقة بيتٍ، بل فكرة أن بيتك انتهكت حرمته، أن أشخاصاً غرباء، لا تعرف لهم أسماء ولا ملامح، جالوا في غرفة نومك وغرفة أولادك، وتركوا وراءهم شيئاً ثقيلاً في الصدر. صرت كلما رأيت شاباً هندياً مخرّم الأذنين من ذوي الأقراط قلت: هذا غريمي. وكلما رأيت أحدهم مشمِّراً عن زنده، يلوح عليه الوشم، قلت هذا هو اللص. وحيثما وجدت، في محيط بيتي، ثلةً من هؤلاء يضحكون ملء أشداقهم، قلت: ها هم "لصوصي". انظر أيها المهاجر، المُستجد، كيف يسخرون منك، ومن خنجرك اليمني العاطل من العمل. قال لي العارفون في أحوال لندن، إياهم: إنك يمكن أن تعيش عشرين سنة هنا من دون أن تتعرّض لسرقة أو اعتداء في الشارع، ويمكن أن يحصل معك هذا في أيامك الأولى. وها قد تحققت "نبوءة" العارفين، فقد فقدت عملي، وسُرق بيتي، في أشهري الأولى في لندن. فكم أنا محظوظ؟