معضلتا الإسلام السياسي المؤسساتي

19 ابريل 2014
+ الخط -
 
لم يكن للحركات الإسلامية، كغيرها من الحركات السياسية، الفضل في أحداث الربيع العربي، لكنها استفادت منها. حيث أوصلت انتفاضاتٌ "ثورية" قوى محافظةً إلى الحكم، ليجد الإسلاميون المؤسساتيون (الذين يقبلون بالعمل والانخراط في اللعبة السياسية، في إطار المؤسسات القائمة، ويحكمون البلاد) في الحكم أنفسهم أمام معضلتين أساسيتين.
أولاهما صعوبة التوفيق بين التوجهات المدنية والتوجهات الدينية، أي صعوبة ربح دعم أطرافٍ، متعارضة ومتناقضةٍ أيديولوجياً، أو على الأقل استمالتها، في الوقت نفسه. وبالتالي، فأمام إكراهات ممارسة السلطة، قد تصبح الأحزاب الإسلامية الحاكمة في وضع الجلاد الديني والسياسي، بعدما كانت، عقوداً، في وضع الضحية، المريح سياسياً. فقد تتحول إلى جلاد، خصوصاً في إطار عمليةٍ انتقاليةٍ معقدةٍ للغاية، مستهدفةً تياراتٍ ليبراليةً مناوئة لها، أو تيارات إسلامية متشددة مناهضة لها هي الأخرى، لكن باسم الدين. وهنا ينقلب السحر على الساحر: التيارات الإسلامية التي أطنبت في الخطاب الديني، وفي الترغيب-الترهيب الإلهي رافعة سقف المطالب والوعود إلى مستوياتٍ غير معهودة، بدل الاعتدال والعقلانية في الخطاب، تجد نفسها في مواجهةٍ "داخلية"، باسم الخطاب نفسه، وبالمفردات الدينية ذاتها.
ويتضح هذا من وضع حركة النهضة في تونس، التي عليها طمأنة جزء من الشعب التونسي والتيارات الليبرالية والعلمانية، وفي الوقت نفسه، ربح دعم التيارات الإسلامية المتشددة. وبالتالي، هي بين مطرقة التطرف الديني وسندان الليبرالية. وهذه معضلة بكل المقاييس: فـ"النهضة" ليست إسلامية بما فيه الكفاية، بالنسبة للسلفية السياسية والجهادية، وليست مدنية (لادينية) بما فيه الكفاية، بالنسبة للتيارات الليبرالية والعلمانية. والمعضلة نفسها واجهها "الإخوان المسلمون" في مصر قبل الانقلاب العسكري. ويشبه هذا الوضع معضلة اليمين الجمهوري في فرنسا في علاقته باليمين المتطرف: لربح ناخبي الجبهة الوطنية المتطرفة يصطاد اليمين الجمهوري في المياه السياسية العكرة لليمين المتطرف، لكنه خسر، في نهاية المطاف، بعض جناحه المعتدل، من دون أن يربح بالضرورة جزءاً من ناخبي اليمين المتطرف.

من ثم، تواجه الإسلاموية المؤسساتية امتحاناً صعباً. إنْ عملت على ترضية الخواطر السلفية السياسية، ستجهض عملية تطبيعها السياسي، وتخسر استحقاق السياسة المدنية، مغامرةً باستقرار البلاد، لما يمثل ذلك من استقطاب سياسيٍّ، ومخاطر العنف المجتمعي فالسياسي، بل قد ينقلب عليها الشعب، لأن أي استبداد ديني قد يحل محل استبداد الأنظمة البائدة سَيُرفض، فالشعوب التي ثارت على تسلطيةٍ جاثمةٍ على صدورها، عقوداً، ستثور أيضا على تسلطيةٍ لم يستقر حالها بعد، وإن كانت دينية. وإِنْ تبنّى الإسلام السياسي المؤسساتي خيار السلطة المدنية، لا الدينية، فإنه سيدخل في مواجهةٍ مع التيارات السلفية السياسية والجهادية. لكنه، في هذه الحالة، قد يجد في التيارات الليبرالية والعلمانية حليفاً له. ومن هذا المنطلق، يمكن طرح تساؤل، قد يبدو متناقضاً في مفرداته، لكنه في غايةٍ من السياسة: أليس المطلوب من الإسلاميين حسم العلاقة بين المقدس والمدنس؟ بمعنى هل "سَيُعَلْمِنُ" الإسلاميون– مكرهين لا مخيرين– الأنظمة العربية الناشئة؟ إذا انطلقنا من فكرة أن تجارب الانتقال الديمقراطي، في بعض مناطق العالم، بيَّنت أن نخباً تسلطيةً في دولٍ عديدة هي من شرَّع وقاد العملية الانتقالية، فيمكن أن نتصور أحزاباً إسلاميةً "تُعَلْمِنُ" النظام السياسي، ليس حباً في العلمانية، ولكن كرهاً/خوفاً من الحرب الأهلية. وهذا ما يقود، في الوقت نفسه، إلى تطبيع وضع الأحزاب الإسلامية في المشهد السياسي العربي (أحزاب تربح الانتخابات وتحكم وتخسر الانتخابات...).
ثانيها تحول النقاش بشأن الحداثة في الديار العربية بين التيارين، الليبرالي والإسلامي، إلى نقاش إسلاموي بيني، أي إلى نقاش "داخلي" بين الإسلاميين المؤسساتيين، والذين هم في الحكم –حال النهضة في تونس مثلاً –من جهة، والإسلاميين المتطرفين بمختلف توجهاتهم، من جهة ثانية. وهنا مكمن الخطر، لأن الخلاف في النقاش الحداثي هو بشأن طبيعة الانفتاح والحداثة ودرجتهما، أما في النقاش الإسلامي البيني، قيد التشكل، فهو حول طبيعة التشدد والانغلاق ودرجتهما. ومن ثم، فإن أحد أبرز الانعكاسات السلبية لوصول الإسلاميين إلى الحكم، في سياق الربيع العربي، قد تكون هذا التحول الخطير في مقاربة النقاش من "درجات" الانفتاح والحداثة- المعاصرة إلى "دركات" الانغلاق والأصالة والتراث المقدسين. ويعبر هذا، بحد ذاته، عن عجز المجتمعات العربية عن حسم القضايا المركزية، إلى درجة أن أي تطور نوعي يبدو، وكأنه– في أحد جوانبه– عودة إلى الوراء، عودة إلى نقطة البداية؛ نقطة الانحراف التاريخي المتمثل في ممارسة السياسة بالدين، وتقديس المدنس (تراكمات التراث العربي-الإسلامي)، وربما تدنيس المقدس أيضاً.
بيد أن تطورات الوضع في تونس، وخصوصاً في مصر، تشير إلى أن القوى المناهضة للإسلاميين فضلت تأجيل الحسم في إشكالية حكم الإسلاميين، ما يؤجل حسم المعنيين هاتين المعضلتين، بإعادتهم، مجدداً، إلى وضع الضحية، لكن هذه المرة، وضع مزدوج: ضحية التسلطية وضحية "الديمقراطية". والمثير للانتباه أن المستقبل، بالنسبة للتيارات الإسلامية من جهة، والتيارات المعادية لها، وكذلك "الدولة العميقة"، هو ماض يُعاد بناؤه ليتوافق وأهواء كل طرف. والأخطر في الأمر أن "الردة الانتقالية" في دول الربيع العربي– إعادة "الدولة العميقة" في مصر "ترتيب" البيت التسلطي من جديد – ومخاض "ثوراتها" التي تراوح مكانها، تعطي الانطباع بأن التسلطية القائمة "المستقرة" خير من "الانتقال" المضطرب. وهذا طبعاً إجهاضٌ فكريٌّ وسياسيٌّ للمشروع النهضوي الديمقراطي المنشود. إنه استمرار لمنطق المفاضلات التعيس: ليس حباً في التسلطية، ولكن، كرهاً في الانتقال المضطرب. لكن، هل هناك من انتقال (من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي) هادئ؟ إن "الانحسار" (الطبيعي و/أو المدبر) لمد الربيع العربي هو، أيضاً، تأجيل للحسم الحضاري في القضايا المركزية...
The website encountered an unexpected error. Please try again later.