معضلة إسرائيل ولوبيها الأميركي في ترامب

معضلة إسرائيل ولوبيها الأميركي في ترامب

23 اغسطس 2019
+ الخط -
لم يكن قرار حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منع النائبتين الأميركيتين الديمقراطيتين، رشيدة طليب وإلهان عمر، من زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة والدولة العبرية ضمن وفد نيابي أميركي تقودانه، قراراً إسرائيلياً محضاً، بقدر ما كان رضوخاً لضغوط من الرئيس الأميركي دونالد ترامب. تدرك إسرائيل خطورة أن تتحول إلى قضية محل خلاف حزبي في الولايات المتحدة، وهي التي استفادت عقوداً طويلة من كونها واحدةً من القضايا النادرة أميركياً التي تحظى بشبه إجماع سياسي، مؤازرة وتأييداً، بشكلٍ أهّلها أن تكون مسألة فوق حزبية في أروقة الكونغرس والإدارة الأميركيتين. 
ولكن هذا الواقع المختل يشهد تغييراً جذرياً، وتحديداً في العقد الأخير، وتضاعف خلال رئاسة الديمقراطي باراك أوباما، الذي وإن كان سار على نهج سابقيه من الرؤساء من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، في دعم إسرائيل، إلا أن صداماته المتكرّرة مع نتنياهو وضعت نسق العلاقات الأميركية - الإسرائيلية غير المتوازنة لصالح الأخيرة تحت مجاهر كثيرة، وخصوصاً داخل الحزب الديمقراطي. وتعدّ ظاهرة عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز، تعبيراً جلياً عن ذلك، إذ إن الرجل لم يكن فحسب مرشحاً منافساً على تمثيل الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وهو منافس ديمقراطي مرة أخرى لانتخابات 2020، ولكنه أيضاً 
يهودي، بمعنى أنه لا يمكن اتهامه بـ"معاداة السامية"، وخصوصاً أن كثيرين من أبناء عائلته ماتوا في سجون الهولوكوست النازي خلال الحرب العالمية الثانية. والأهم أن ساندرز يمثل أحد أبرز الرموز التقليديين للتيار التقدمي والليبرالي الشاب في الحزب الديمقراطي، الذي حقق نجاحاً جيداً في الانتخابات التشريعية النصفية العام الماضي. وبسبب تنامي الجناح التقدمي والليبرالي داخل الحزب الديمقراطي، تراجعت نسبة تأييد إسرائيل في الحزب إلى 27% مقابل 25% لصالح الفلسطينيين، في حين أن نسبة التأييد للفلسطينيين داخل هذا التيار أعلى منها لصالح إسرائيل، بنسبة 35% مقابل 19%. وهنا من الضروري أن نبقي في خلفية المشهد أننا نتحدث عن الحزب (الديمقراطي) الذي مَكَّنَ لإسرائيل تأسيسها عام 1948 تحت إدارة الرئيس هاري ترومان، كما أنه أحد الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة مع الجمهوريين. الأهم أنه الحزب الذي يحصد، إلى اليوم، غالبية أصوات اليهود الأميركيين في معظم الانتخابات.
لهذا كله، ارتكبت حكومة نتنياهو خطأً تكتيكياً كبيراً، قد تكون له تداعيات استراتيجية، فرشيدة وإلهان ليستا عضوين فحسب في الحزب الديمقراطي، بل هما من صلب بنية التيار التقدّمي والليبرالي الشاب في الحزب، وهذا هو الأخطر على إسرائيل. وليس سرّاً أن المؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي في حالة صراع مع هذا التيار، في مسعى إلى لَجْمِهِ وإعادة التحالف التقليدي بين الديمقراطيين وإسرائيل. وقد تجلى المعطى الأخير بغير صورة، سواء عبر تشكيل لجنة من بين بعض رموز الحزب لتقديم مرشحين للكونغرس مؤيدين لإسرائيل عام 2020، أو في دعم أغلب أعضاء الحزب في الكونغرس القوانين التي تدين مقاطعة إسرائيل استثمارياً، أو في أخذ قيادات الحزب مواقف عديدة سابقة ضد رشيدة وإلهان، بسبب نقدهما اللاذع المستمر لإسرائيل. إلا أن ذلك كله الآن وضع في مهبِّ الريح بعد أن قدّم نتنياهو للتقدميين والليبراليين في الحزب الديمقراطي هدية ثمينة، اضطرت حتى أعتى أنصار إسرائيل في الحزب، بدءاً من الناطقة باسم الكونغرس نانسي بيلوسي، مروراً بزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب ستيني هوير، وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ شاك شومر، وليس انتهاءً بمنافسين ديمقراطيين كثيرين على مرشح الرئاسة.. اضطرّتهم جميعاً أن يدينوا القرار الإسرائيلي المتعسّف.
المفارقة هنا أن إسرائيل تدرك ذلك كله، وخطورة التداعيات المحتملة لهذا القرار، وهذا يعيدنا إلى ما ابتدأنا به هذا المقال عن دور ترامب في كل ما جرى. حسب معلومات مؤكدة، استناداً إلى تقارير أميركية وإسرائيلية ذات صدقية، كانت حكومة نتنياهو قد حسمت أمرها، مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، بالسماح لرشيدة وإلهان بإتمام الزيارة التي كانتا تعتزمان القيام بها، وهو ما كان قد أكده من قبل السفير الإسرائيلي في واشنطن رون ديرمر، على أساس أن ذلك ينطلق من احترام إسرائيل الكونغرس والعلاقات الأميركية - الإسرائيلية. ولكن تغريدة لترامب في الخامس عشر من الشهر الجاري قلبت الأمور رأساً على عقب.
كتب ترامب: "لو سمحت إسرائيل للنائبتين عمر وطليب بالزيارة لأظهر ذلك ضعفاً كبيراً.. 
إنهما عار". حينئذ، وجد نتنياهو نفسه في وضع حرج، فكسر كلمة ترامب تعني تنكّراً لجمائله الكثيرة عليه، كدعم ترشحه مرة أخرى لرئاسة الوزراء، أو في إهدائه قراراً أميركياً يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو الإقرار بضم الجولان السوري المحتل، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ونسف فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.. إلخ. أما إذا منع النائبتين الديمقراطيتين من زيارة الدولة العبرية، فهذه ستكون سابقة بآثار سلبية محتملة على العلاقات الإسرائيلية - الديمقراطية، وربما على العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، في حال عاد الديمقراطيون إلى البيت الأبيض. في النهاية، وجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى مسايرة ترامب، وهو ما أثار عاصفة احتجاجات في إسرائيل من مخاطر ذلك. كما أثار القرار عاصفة احتجاجات من منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، القلق من تحويل إسرائيل إلى قضية صراع حزبي سياسي.
على أي حال، أعاد القرار الصلف لحكومة نتنياهو تسليط الضوء على العلاقات غير المتوازنة بين واشنطن وتل أبيب، بل أبعد من ذلك، أعطى لـ"حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، دفقة من الحياة تحتاج إليها أميركياً، وخصوصاً أن الذريعة الإسرائيلية لإلغاء زيارة النائبتين تمثلت بدعمهما هذه الحركة. وهكذا، تجد إسرائيل نفسها اليوم في معسكر العنصرية والكراهية الذي يمثله ترامب، والذي لا تخفي قواعده مشاعر معاداة السامية، بل إنه هو نفسه عبّر عن هذه المشاعر غير مرة، وذلك كما في اتهامه أخيراً اليهود الأميركيين الذين يصوّتون لصالح الديمقراطيين بـ"الجهل" و"الخيانة". ويثير هذا كله فزع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي يخشى سياسات إدارة ترامب في إطارها العام، حتى وإن أيّد بعض سياساتها نحو إسرائيل، ولكن ليس كلها. وكما قال ساندرز: "إذا كانت إسرائيل لا تريد أن يزورها أعضاء من الكونغرس الأميركي، فلربما عليها أن ترفض باحترام مليارات الدولارات التي نعطيها إياها".