معجمٌ بابَة مُشْرَعة إلى أفق واعد

معجمٌ بابَة مُشْرَعة إلى أفق واعد

24 ديسمبر 2018
+ الخط -
قد يطيبُ للتّفكير السّاذج تَبنِّي أنّ القوّة الماليّة لأمّة/ دولةٍ عِمادُ نهوضها، وهذا صحيحٌ إلى حدّ ما، لكن ليسَ على علَّاته؛ فالقوّة الماليّة تعني كثرةَ الدّخل وتراكُمَ فائضٍ منه بعدَ النّفقات، وأكثر أهل الاقتصاد اليومَ يعرفونَ أنّ مراكمة ذلك الفائض من دون استثمارِه، كلّه أو جزء منه، في قطاعات تنمويّة، يمكنُ أن تقضي عليه بسبب التّضخّم الذي يأكل منه نسبةً ما سنويًّا.
وقد يتابع التّفكير السّاذج ذاتُه في تحبيذ فكرةٍ جميلة في ظاهرها: إذا كنتُ أمتلكُ القوّة الماليّة لأشتري ما أريد، فلماذا أُعنّي نفسي بإعادة اختراع العَجَلَة؟ وهي فكرة ذاتُ بريقٍ أخّاذ أيضًا، لكنّها ليسَت صحيحةً تمامًا؛ لأنّ الذي يُعيدُ اختراعَ العجلةِ لا يعودُ محتاجًا إلى الإنفاقِ على شرائها، فضلًا عن أنّ معرفته بكيفيّة صُنعِها ستمكّنه من اختراعِ غيرِها، أو توظيفِها في صناعةٍ جديدة.
فإذا انتهى التّفكير السّاذج نفسُه من غمرةِ ما تقدّم، وأفاقَ تأمّل فهَتَفَ: جيّد، نتّفق على هذا، فما شأنُ النّهوضِ بالتّعليمِ والعلمِ، والتّأليفِ والتّرجمة، والبحثِ والنَّشر؟ أليسَ النّهوضُ في الصّناعاتِ والبنية التّحتيّة والتّجارة والسّياحة ونحو ذلك؟ وذلك صحيحٌ أيضًا، لكنّ صِحَّتَه منقوصةٌ كسابِقَيْهِ؛ إذ إنّ أيَّ نُهوضٍ اقتصاديّ يجب أن يصحبه نهوضٌ اجتماعيّ، وعقليّ، ومعرفيّ، وعلميّ، وفنّيّ، وأدبيّ، وثقافيّ، ووجدانيّ أيضًا، وهذا كلّه لا يتأتّى من فراغٍ، ولا بدَّ له من نهوض سياسيّ مصحوبٍ بإرادةٍ قويّة حُرّة، وطموحٍ رؤيويّ إلى مستقبلٍ يجمعُ ممكنَ الطّموح مع واقعِ الحاضر وإمكاناتِه، وإكراهاتِه أحيانًا.

ولعلّ النّاظرَ نظرًا عابرًا في العالمِ الحديثِ، في أوروبا التي شرعت عصر نهوضِها في أعقابِ العصور الوسطى، وكثيرٍ من بلدان العالمِ الّتي نهضت، كاليابان وكوريا والصّين والهند وماليزيا وتركيا، يجدُ واضحًا صحّة ما تقدّم في الفقرة أعلاه: النّهوضُ ليسَ أُحاديّ الجانب، ولا بدّ لاستدامتِه، بعد كينونته، من تنمية حقيقيّة في الجوانب الثقافيّة والفكريّة والمدنيّة والحقوقيّة التشريعيّة؛ أي نهضة إنسانيّة شاملة. بل يجدُ أنّ النّهوضَ الاقتصاديّ والصّناعيّ إنّما هو من نواتج النّهوض الفكريّ والثقافيّ والاجتماعيّ. وموقعُ النُّهوضِ اللغويّ في قلبِ هذا النّهوضِ، بما هُو تجلٍّ حقيقيّ لتَنامي الإحساسِ بالهُويّة والذّات الحضاريّة، وتلمُّس موقعٍ للذّات الجمعيَّة في المشهدِ الحضاريّ الكونيّ.
وهو ما يجدُه النّاظرُ المتفحِّصُ في تاريخ العربِ على مدار وجودِهم. ومصاديقُ ذلك غير بعيدة: مع مطلع القرن الهجريّ الثّالث، ظهر بيت الحكمة الّذي اتّسع نشاطُه في عصر المأمون، فأصبح ذا فروعٍ: المكتبة التي تضمّ نسخة من كلّ كتاب يؤلَّف، وقسم النّقل والتّرجمة الّذي اشتُهِرَ فيه إسحاق بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وأمثالهما، والمدرسة، والمرصد الفلكيّ في الشّمّاسيّة، وقسم البحث والتّأليف.
ومع بدايات القرن الهجريّ الرّابع، كان نظام الملك السُّلجوقيّ في المشرق، بدعم من الخلافة العباسيّة، يؤسّس لعصر جديد من التّعليم والفكر والثّقافة، فشرع في بناء المدارس التي عُرِفت بالمدارس النِّظَاميّة، وقد أرسى أولاها لشيخ الشّافعيّة في المشرق أبي إسحاق الشّيرازيّ، وفي هذه المدارس تخرّج أمثال الغزاليّ صاحب "إحياء علوم الدّين".
وفي الجانب الغربيّ من بلاد العرب، شرع عبد الرّحمن النّاصر (الثّالث) في نهضة علميّة ثقافيّة موازية لما أسّسه العبّاسيّون في المشرق، فراسل أبا عليّ القالي البغداديّ، واستقطبَه ليحضر إلى قرطبة، ويحمل معه ما يستطيع من الكتب
والمخطوطات، فدخل أبو عليّ قرطبة سنة 330هـ ومعه سبعة أحمال من الكتب أحصاها ابن خير في فهرسته. واستقبل النّاصرُ القالي مع أعيان الدّولة في ظاهر قرطبة، وضربَ له مجلسًا في مسجدها الجامع، وكان يحضر دروسه خلق كثير فيهم ابنُه الحكم المستنصر الّذي حكم بعدَه... ومن دروس أبي عليّ كان كتابُه "الأمالي" الذي سجّل فيه تلامذته ما كان يُمليه عليهم.
ثمّ تبعه ابنه الحكم المستنصر، الّذي رَتّب نسّاخينَ للكُتب في أصقاعِ الأرضِ، ينسخون له الكتبَ ويرسلونَها إليه في قرطبة، وجعل من قَبْو قصره مختبرًا للكيميائيّ عبّاس بن فرناس الّذي أجرى أُولى تجاربِ الطّيرانِ بجَناحَينِ مصنوعَينِ من ريشِ الطّيورِ، ونقَصَه الذَّيلُ فهَوَى عن قمّة قصرِ المستنصر. والحَكَمُ هو نفسُه الذي كان يَدْعُو العالِمَ في فنّ من الفنون إلى قصرِه، ويرسم له خطّة كتابٍ، ويطلب منه أن يستغلّ ما في مكتبته العامرة بأربعمئة ألف نسخة، ويقومُ على رعايةِ أسرةِ العالمِ بما يلزمُها حتّى يتمَّ كتابَه، فيمنحه جائزته ويؤوبَ إلى أهله.
والأمرُ نفسه كان مع صلاح الدّين الأيّوبيّ الّذي رتَّب في الجامع الأزهر مجالسَ لرؤساء المذاهب الأربعةِ، وأجرى الجراياتِ على طلبة العلمِ من مشارق الأرضِ ومغاربِها، وأمكنَ له بعدَ قرابة عشرينَ عامًا تحرير بيت المقدس.
لستُ أريد، هنا، الحُكم على نتائج تلك المحاولات للنّهوض، لكنْ أريدُ محضَ وصفِها، والتّنويه عنها؛ لأنّها كلَّها سخّرت جزءًا من فائض القوّة الماليّة لتحقيق تنمية فكريّة وعقليّة وثقافيّة موازية، ولأنّها نهضاتٌ تاريخيّة فقد استندت إلى قوّة العربيّة لُغةً، وهي لغة كانت مخدومةً في تلك العصور، بما أهّلها لأعباء تلك المحاولات ومتطلّباتِها وتبعاتها، فلم تجدِ التّرجمة، ولا التّراجمة من كلّ المِلَل والنِّحَل، عقبةً لغويّة تحولُ دونهم، كما استندت إلى قوّة العربِ أُمّةً، في السّياسة والحضارة والاقتصاد. القويُّ لا يخشى الآخرَ، بل لا يعدُّه آخرَ إلّا بما هُو صِنْوُ الذَّات ونظيرُها، ولا يخشى أفكارَه وتصوُّرَه للذّاتِ وللعالمِ وللحياة، وإنّما يقومُ معه على مسافةٍ ونِدّيّة واحترام، فإذا غالبَ قاوَمَ ورَدَّ بمُغالبَةٍ مُناظِرة.

يأتي معجمُ الدّوحة التّاريخيّ للُّغة العربيّة، هُنا، في هذا المقام، في موقعه الطّبيعيّ تمامًا، هو وما سيتبعُه من معجماتٍ أخرى متخصِّصة تُسْتَلُّ منه استلالًا، فضلًا عن مساردَ بمصطلحاتٍ علميّة في سائر الفنون والعلوم والمعارف. إنّه تتويج لمسار رؤيةٍ نهضويّة حقيقيّة، تنظر إلى استثمار جزءٍ، مهما يكن ضئيلًا قياسًا بغيره، من فائض القوّة الماليّة لدولة فتيّة ناهضة، وفائض القوّة العقليّة والمعرفيّة لأمّة تعجّ بهذا النّمط من فائض القوّة، لتقديم أوّل معجمٍ تاريخيّ للغةٍ ينظر إليها أكثر من 300 مليون عربيّ نظرةً قوميَّةً تلازم الأصل والتّاريخ، وأكثر من مليار ونصف المليار بين مسلم يراها لغة مقدَّسة، ومسيحيّ يراها منبع ثقافته ورمزًا لمشرقه، ومعنًى أساسيًّا من معاني وجودِه.
في سفرِ الحضارة العربيّة التي بدأت تشهدُ تملمُلًا للنّهوض مطلع القرن الحادي والعشرين، وبروز الطّموح إلى وجودٍ عربيّ متعيِّن حقيقيّ، في المتنِ لا على الهوامش، وإلى استعادةِ الإحساس بكرامة الذّات بما تمتلك مقوّمات الكرامة واحترام الذّات، وتفرضها باحترام وكفاءة على الآخر، وإلى عقلانيّة تملك تفسيرًا واقعيًّا لكلّ شيء، سيكون معجم الدّوحة التّاريخيّ العتبة الأساسيَّة، والبابةَ المُشْرَعَة على أفُقٍ عربيّ واعد، في العلم، والتّعليم، والإعلام، والتّرجمة، والتّأليف، والبحث.. وهذا كفيلٌ بإحداث النّقلة الواعية بالتّدريج.