معاهد السينما في المغرب: خلل برامج وعطب رؤية

معاهد السينما في المغرب: خلل برامج وعطب رؤية

20 سبتمبر 2019
المعهد العالي للسينما في الرباط (العربي الجديد)
+ الخط -
الفقر الإبداعي الرهيب، وتضخّم الأنا عند بعض المخرجين المغاربة، والبؤس التقني، والحالة التي يعانيها المشهد السينمائي المغربي اليوم، أمورٌ تدفع إلى طرح سؤال إشكاليّ عن جوهر التعليم السينمائي وأصله ومصادره ومناهجه، وطرق تدريسه وتلقينه لمن يرغب في دراسة السينما في معاهد عمومية أو خاصة، تُعرف بـ"السمعي البصري"، ويُشرف عليها مسؤولون لا علاقة لهم بالإبداع والتعليم السينمائيين، وليس لديهم ما يؤهّلهم لخوض هذه التجربة المذهلة، ولممارسة المهنة بأخلاقياتها. 

الأمر يتعلّق بما أصبحت تجنيه بعض المعاهد والمدارس الخاصة من أموال، أمام الطوفان البصري الهائل، الذي شهدته المنظومة الثقافية العربية، من بدايات القرن المنصرم، وإعطاء الأولوية للصورة، والتصوّرات في مجالات البحث العلمي، ما جعل هذه المدراس تتناسل بوتيرة سريعة وهجينة، وبشكل تقليديّ في التدريس والتلقين، لا تُراعي التغييرات الطارئة على المشهد السينمائي العربي في الأعوام القليلة الماضية.

هذا كلّه جعل بعض المدرّسين في المعاهد يعيش غيبوبةً، أو في ماضي السينما العربية، بدلاً من الاهتمام بحاضرها ومستقبلها، وبما تميّزت به من إبدالٍ على مستوى الموضوع وجماليات تناوله، ما أفضى بعد سنين من الدراسة إلى إنتاجٍ طالبي آلي من دون تفكير ولا إبداع، ومن دون إيمان بأنّ السينما مشروع فكري وجمالي يقوم على الشغف بها، وآلية من آليات الحلم والتفكير، فهي ليست مجرّد آلة كما ينظر البعض إليها.

في هذا التحقيق، تطرح "العربي الجديد" سؤالاً يتعلّق بالتعليم السينمائي في المغرب، ومدى نجاعته وقدرته على تخريج طلبة لهم القدرة على ابتكار مشاريع سينمائية، كما بالنسبة إلى مخرجين مغاربة درسوا خارج بلدهم. والتقت "العربي الجديد" نقّادًا وأكاديميين، يشغلون مناصب مهمّة في المعاهد العمومية، التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.

تقول الباحثة جميلة عناب ("المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما" في الرباط)، بخصوص قدرة معاهد السينما ومدارسها في المغرب على "إنتاج" سينمائيين يجمعون المعرفة الأكاديمية الرصينة بالصناعة التقنية، إنّ الإقبال على التكوين في المجال السينمائي يعرف تطوّرًا ملموسًا في الآونة الأخيرة، عبر إنشاء معاهد عليا، كالمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما في الرباط (ISMAC)، الذي يمنح تكوينًا مجانيًا لـ3 أعوام (الإجازة)، ولـ5 أعوام (ماستر)، بالإضافة إلى مؤسّسات ومدارس خاصة، فضلاً عن تكوينات جامعية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية في نمسيك ـ البيضاء وبني ملال ومراكش.

وتشير الباحثة إلى "صعوبة الحديث عن طالب متخرّج للتوّ، مُتمكنّ تمامًا من أدواته ومعارفه في السينما والسمعي البصري". فالإخراج مثلاً "إبداع ونضج فكري ورؤية فنية وتراكم ثقافي واختيارات جمالية ومدارس"، يصعب على الطالب تلقّيها كلّها في أعوام التكوين. في "المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما" مثلاً، "نمنح دروسًا نظرية مرتبطة بالسينما والسمعي البصري والجماليات والفنون، بالإضافة إلى دروس تطبيقية في الإنتاج والإخراج والصوت والتصوير والكتابة وما بعد الإنتاج". هذا كلّه، بالنسبة إلى عناب، "لا يعني أنّ المتخرّجين هم، بالضرورة، مخرجون أو منتجون أو مصوّرون، لكنهم يملكون أدوات ومعارف نظرية وتطبيقية، تُخوّلهم الخوض في تجريب السينما، أو الاندماج في الحياة المهنية للسينما وللسمعي البصري".



عن العدد الهائل من متخرّجي معاهد السينما في المغرب، تقول جميلة عناب إنّهم غير مؤهّلين عمليًا لابتكار مشاريع سينمائية جديدة، "رغم امتلاكهم العدّة التقنية، وكيفية الاشتغال بها". تُضيف: "يتمّ تلقّي الفيلم السينمائي من زوايا متعدّدة، ترتبط بفئات مختلفة من المتلقّين، إذْ لا يوجد فيلم بمواصفات ثابتة تحكم نجاحه أو تفوّقه، فكلّ متلقّ يجد ضالته في فيلم ربما لا يستحسنه آخر. لكن، يُلاحظ أنّ شبابًا عديدين، متخرّجين حديثًا، متمكّنون من التقنية على حساب الجوهر. وكما أشرت سابقًا، أظنّ أن مردّ ذلك كامنٌ في الحاجة إلى النضج الفكري والثقافي والسينمائي، الذي يجب على الشاب أن يبنيه تدريجيًا، بالانفتاح على الفنون عامة، وعلى الفلسفة والآداب، وبالاهتمام بالتجارب السينمائية الحديثة والكلاسيكية". وأعطت عناب مثلاً: "هناك مخرجون أظهروا سينما بديلة، بفضل مراهنتهم على أدوات تعبيرية خاصة، كـ(فنّ الفيديو) والـ(ميتا سينما)، كهشام العسري ومحمد مفتكر وتالا حديد وفوزي بنسعيدي، الذين كشفوا عن لغة سينمائية تعبيرية خاصة بهم، تجعل المتلقّي يصنع المعنى، ويشارك في بنائه".

أما عن نوعية المناهج والدروس، فقالت جميلة عناب: "يُشرف على التكوين في (المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما) أساتذة جامعيون، بعضهم له تجربة في السمعي البصري والسينما، ومهنيون مشاركون في ورشات ودروس تطبيقية. والطلاب يتلقّون دروسًا نظرية عن السينما والتلفزيون، وتاريخ الفن والجماليات، بالإضافة إلى دروس تطبيقية وتمارين بيداغوجية، تعتمد التجريب وبلورة أفكار الطلاب سينمائيًا، فينجزون أفلامًا قصيرة ووثائقية، وأخرى روائية، ومجلات تلفزيونية، وربورتاجات مختلفة، بإشراف الأساتذة".

من جهته، يؤكد الناقد السينمائي عبد الكريم واكريم أنّ المعاهد والمدارس السينمائية في المغرب لم تستطع، لغاية الآن، صنع وتكوين مخرجين مهمّين، ذوي خبرات". بالنسبة إليه، فإنّ غالبية المتخرّجين "متمكّنة فقط من التقنية"، في مقابل قلّة منهم "تمتلك رؤية ووجهة نظر فكرية وفنية". يُضيف أنّه "ربما في المستقبل نرى بعض هؤلاء وقد صقل تجربته الإخراجية، وطوّر نفسه في هذا الجانب". لكن، إلى الآن، "لا أسماء أتذكّرها في هذا السياق، أو ربما هناك اسم واحد هو علاء الدين الجم، الذي درس السينما في أحد المعاهد المغربيّة، لكنّه أكمل دراسته في أهمّ معاهد بلجيكا وأوروبا، وفيلمه الروائي الطويل الأول (معجزة القديس المجهول) يُعرض في (أسبوع النقد) في مهرجان (كانّ) 2019. لكن الجم لوحده، فنحن لم نُشاهد مواهب حقيقية تتخرّج من المعاهد السينمائية المغربية، بل تقنيين متحكّمين بالجانب التقني، بينما المخرج السينمائي الحقيقي يحتاج إلى شيء آخر غير التقنية، ليكون كذلك". يُضيف واكريم أنّ هناك "مواهب لم تدرُس السينما أكاديميًا، والموهبة ظاهرة للعيان في أفلام قصيرة يُنجزها هؤلاء. هنا تكمن المفارقة".

عن العدد الهائل من المتخرّجين، الذين يفشلون في صنع فيلم سينمائي واحد بالمواصفات المتعارف عليها، يقول عبد الكريم واكريم: "للأسف، هذا حاصل. يبدو أن هناك خللاً في المعاهد، وفي برامجها التكوينية ومنظومتها التعليمية، ما يحول دون تمكّن المتخرّجين من صُنع إضافةٍ تذكر في المجال السينمائي المغربي". ويُشير إلى أنّ معظم المعاهد "لا تُدرِّس مادة أساسية، هي السيناريو، وهذه مشكلة أساسية تعانيها السينما المغربية"، معتبرًا أنّ "المعهد العالي للمهن السمعية والبصرية"، التابع للدولة، "يفرض على المدرّسين فيه أن يحصلوا على الدكتوراه في اختصاصاتهم، ما يُلغي طاقات متمكّنة للغاية من تدريس المواد". ويتساءل: "كيف يُمكن تفضيل من يحصل على الدكتوراه لتدريس المونتاج، على آخر لديه خبرة طويلة جدًا وحنكة؟". ويرى أنّ هناك "خللاً في هذا السياق"، وأنّه "يجب إعادة النظر في طرق التدريس وأساليبه، وفي الأشخاص الذين يدرّسون أيضًا، وفي من يدير هذه المعاهد والمدارس".



ويختم واكريم كلامه بالقول: "نقّاد سينمائيون قليلون جدًا يدرّسون في معاهد سينمائية. في المقابل، هناك جامعيون وأكاديميون تقتصر خبرتهم السينمائية على النظريّ، فيغرقون في تنظيرٍ يبتعد عن العمل السينمائي الميداني، وهذا لا ينفع الطلاب، بل يُدخلهم في دوّامات ومتاهات بعيدة عن العمل السينمائي الحقيقي". بالنسبة إليه، "يجب إعطاء الدور لمن يُمكنه تغذية ثقافة الطالب، وجعله متخرّجًا قادرًا على أن يصبح مخرجًا صاحب رؤية. الكتابة مطلوبة في هذا السياق، بالإضافة إلى التقنية طبعًا، إذْ لا أتصوَّر نهائيًا مخرجًا غير مطّلع على أمّهات الآداب العالمية، وعارفًا بتاريخ الفنّ ونظرياته، ولديه إلمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والفكر والفلسفة وعلم النفس". المشكلة "أنّ هناك من يزرع فيه، رغم النقص المعرفي الذي يعانيه، وَهم أنّه قادر على أنْ يكون مخرجًا سينمائيًا، فقط لمعرفته بسُلّم اللقطات، وبكيفية التقطيع، وبزوايا التصوير. للأسف الشديد، هذا ما هو حاصل الآن. هناك شبابٌ تلتقيهم في مهرجانات سينمائية مع (أشياء) لهم تُشبه الأفلام وما هي بأفلام، ولديهم ثقة عمياء بأنّهم مخرجون جيدون. وعندما لا ينالون جوائز، يغضبون ويظنّون أن لجان التحكيم بخستهم حقهم، وأنها لم تُقَدِّر (الفن الجيد) الذي يصنعون، فيما هم واقعون في خواء فكري لا يُتصوّر، وفي وهم أنّهم مخرجون وما هم بمخرجين حقيقيين".

أمّا الباحث حبيب الناصري، فيرى أن هذه المؤسسات "ضرورية ومفيدة للمجال السينمائي المغربي"، وأنّ "الموهبة وحدها غير كافية، فلا بُدّ من صقلها بالتكوين". يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ وجوهًا سينمائية عديدة تجمع متعة التكوين بجماليات الموهبة، ما يمنح أفلامها قيمة نوعية". يؤكّد مجدّدًا أنّ المعاهد ضرورية، وأنّه لا بُدّ منها، "إنْ تنتمي إلى القطاع العام أو الخاص". ويرى أنّ الاستمتاع بـ"الصوت الخفي" لكمال كمال مثلاً، "ناتجٌ من مزجه تكوينًا علميًا سينمائيًا بموهبة جميلة في العزف الموسيقيّ".

يضيف الناصري: "لا يُمكن التعميم، فهناك تجارب جميلة وناجحة في السينما المغربية". ويتساءل: "هل أنّ أفلام فوزي بنسعيدي وكمال كمال وآخرين فاشلة؟ لا أظنّ. المهمّ في السينما المغربية أنْ ننشغل ونعبّر عن رؤيتنا لذواتنا وللعالم والآخر. وككلّ سينما تبحث عن ذاتها السينمائية، هناك ما هو مخدوم شكلاً ومضمونًا، وهناك ما نختلف حول بعده الجمالي. لكن الجمهور متنوع ومختلف، ويصعب صُنع سينما واحدة لجمهور واحد".

ويؤكّد الناصري أنّ احتكاكاته وزياراته، بين فينة وأخرى، إلى المعاهد للمشاركة في ندوات مختلفة، تكشف له "أنّ التنوّع ميزة التكوين، إنْ على مستوى ما يُقدَّم للطلاب، أو على مستوى المتدخّلين في هذا التكوين. فالطالب محتاج إلى التجربة النظرية للباحث الجامعي، وإلى الخبرة المهنية للمخرج، وإلى قراءات الناقد للأفلام، كي يمتلك تكوينًا نوعيًا ومفيدًا".

من جهته، يرى الناقد سليمان الحقيوي أنّ "دراسة السينما أمام شُعب أخرى، في الماضي، حَمَق وتمرّد، وأنّها غير مقبولة عند معظم الأسر المغربية، خصوصًا بالنسبة إلى الفتيات". لكنه يؤكّد أنّ الأمر حاليًا "تغيّر"، ذلك أنّ مئات الطلاب "ينتسبون إلى معاهد السينما، وهذا إيجابيّ". لكن "تطلّعات المنتسبين إلى معاهد السمعيّ البصري والسينما مختلفة، تمامًا كحال المنتسبين إلى فروع أكاديمية أخرى. فليس لكلّ دارس فلسفة مشروع، كعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. وليس إلى التكوين وحده ينتسب المشروع. مسألة الشغف تجعل للمخرج مشروعًا، وأيضًا أنْ يعرف ما يريد من السينما في المقام الأول".

ويُشير الحقيوي إلى أن أسبابًا كثيرة تحول دون نجاعة المتخرّجين الجدد، إذْ "لا يُمكن الربط مباشرة بين تلقّي تكوين في معهد للسينما، ومشروع سينمائي لمخرج أو متخرّج. غالبية المعاهد تابعة لـ(وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي)، أو تكون معاهد خاصة، وكلّها تُقدّم تكوينًا نظريًا وتطبيقيًا، في أعوام محدودة. بغضّ النظر عن جدّيته أو عدم جدّيته، يضع التكوين المنتسبين جميعهم إليه على طريق صناعة السينما. لكنّ هذه مجرد بداية، فهناك أشياء أخرى، كالانشغال بلغة السينما، والقراءة المتواصلة، والاحتكاك مع الناس، ومعرفة الموضوع الجيد، والبحث المتواصل. هذه عناصر تساعد على بروز مشرع سينمائي، لكنها ليست حاسمة أبدًا. اسأل طبيبًا مغربيًا تلقّى تكوينًا في كلية الطب، عن كتاب أو فيلم، لن تحصل منه على إجابة خارج الطبّ، فهو غير معني بالعالم خارج عيادته".

لذا، يطلب الحقيوي من دارس السينما "ألّا يسقط في هذا الفخّ، فالسينما هي العالم كلّه، والاهتمامات المتعدّدة". يقول إنّ "السينمائي فيلسوف وأديب وعالم اجتماع، والسينما ليست معرفة تحريك الكاميرا وإدارة الممثل فقط".

وينهي سليمان الحقيوي كلامه بتناوله مسألة المسؤول عن الكفاءات، فهل هم جامعيون أم نقّاد أم مخرجون، فيقول إنّ هناك نوعين من التكوين في معاهد السينما: نظرية وتقنية: "يُفترض بالنظريّ أن يُركّز على تاريخ السينما والأنواع الفيلمية والتحليل الفيلمي والنقد والجماليات، ويقوم بها نقّاد وجامعيون متخصّصون في هذه المجالات المعرفية. أما التقني، أيّ هندسة الصوت والمونتاج والتوزيع، فيُفترض بتقنيين ومخرجين تدريسه. مع هذا، يجب عدم فصل هذه التكوينات عن السياق العام للجامعات والمعاهد المغربية، إذْ إنّك ستجد دائمًا ارتباكًا ما في دقّة التكوينات واستهدافاتها واستكمالها. هذا لا ينطبق على تكوينات السينما وحدها، بل على الجامعة المغربية عمومًا".

دلالات

المساهمون