مصطلحات.. وتناقضات عربية
لا أظن أن مصطلحاً تعرض للتشويه عربياً، كما مصطلحات الليبرالية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. وأزعم أن ذلك يعود إلى أننا لم نتفق على معانيها قبل مناقشتها، خصوصاً أنها معان جديدة نسبيا على الثقافة العربية. لكن الغريب أن هناك مصطلحاً آخر تفوق عليها جميعا في سوء الفهم لمدلوله، على الرغم من وضوحه اللغوي والوظيفي عربياً، وأعني به مصطلح "المثقف"، فما زلنا نردد هذه الكلمة، ونصف بها كثيرين، ونطالبهم بأدوار ووظائف معينة، مع اختلافنا، غالباً، في طريقة فهمنا مدلولها.
حفل قاموسنا العربي السياسي والثقافي، منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، بمصطلحات كثيرة، تتعلق بصفة المثقف، مثل المثقف الموسوعي، والعضوي، والطليعي، و"مثقف السلطة"، و"مثقف الجماهير"، و"مثقف المستقبل"، وغيرها، تعبر عن رؤانا المتباينة تجاه المثقف.
المشكلة أن أغلبيتنا استخدم هذه التسميات الوصفية للمثقف، من دون تدقيق كاف لمدلولاتها الحقيقية، ربما بسبب عدم اكتمال المراحل التي عاشها العرب، تنويرياً وأيدولوجياً ومعلوماتياً، فعصورنا العربية كانت، في الغالب، مجرد عصور مبتسرة، ومتأثرة بالآخرين إلى درجة التقليد الأعمى، كما أننا تعاطينا مع معطيات تلك العصور ومنتجاتها، في غياب الظروف الملائمة لنشوئها لدينا. ولعل هذا يفسر الانفكاك الواضح الذي عشناه، في العقود الأخيرة، بين المراحل الإنتاجية وعالم الثقافة. ففي حين ساهمت الفوائض الإنتاجية لدى الغرب في إيجاد اقتصاد جديد عندهم، ساهمت فوائض النفط وارتفاع أسعاره في المحافظة على البنى التقليدية في بلادنا، فنشط عالم ما بعد الحداثة عندهم في مقابل تجدد علم الكلام عندنا، وحولت الأنظمة العسكرية المثقف إلى تابعٍ، يدور في فلكها الأيديولوجي، ومن كتب له أن يفلت من هذا المدار، فإلى الغربة والاغتراب. وهكذا شهدنا في السابق، وما زلنا نشهد، تراجع دور المثقف عموماً، وإلغاء دور المثقف المستقل خصوصاً.
وهذا يعيدنا، نحن العرب، مرة أخرى، إلى بدايات القرن العشرين، وحتى منتصفه تقريباً، حيث شهدنا ازدهاراً ثقافياً، نتيجة الهامش الديمقراطي الحقيقي الذي وفرته الأنظمة "التقليدية" آنذاك. ثم ضاق هذا الهامش مع إحكام الأنظمة العسكرية قبضتها على المجتمعات العربية، وهذا دليل جديد على استحالة وجودٍ حقيقي للمثقف، من دون نظام ديمقراطي، وحكم القانون، ووجود مجتمع مدني حقيقي، لا تستطيع السلطة اختصاره وادعاء تمثيله وحدها.
وأكرر، هنا، ما أقوله دائماً: إننا على الرغم من متابعتنا تجارب أنظمة قمعية، في أنحاء عديدة من العالم المحيط بنا مع شعوبها، إلا أننا لم نشهد استسلاماً للمثقف فيها، مثلما شهدناه في وطننا العربي. طبعاً باستثناء قلة قليلة، وربما كان ذلك يعود، في جانب منه، إلى أن أنظمتنا كانت أشد قوة وبطشاً، نظراً للمشروعية، لا الشرعية، التي اكتسبتها نتيجة الحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي، وتغليب الغرب لمصالحه على مبادئه، فلم ينجد مثقفاً ولا حركة ديمقراطية واحدة في بلادنا، وقد يكون هذا الغرب أول من دشن الانقلابات العسكرية عندنا. كان في وسع مثقفينا العرب أن يخوضوا معركة بقائهم واستقلاليتهم، بصورة أقوى بكثير من أسلوبهم في الممانعة السلبية، والتي مارسها بعضهم، والانسحاب السريع الذي مارسه معظمهم.
أخطر ما تمر به الثقافة في أي بلد هو وضع سقف سياسي، له شعاراته الوطنية والقومية والتراثية، فلا تجد الثقافة متنفساً لها إلا في خيارين، ثالثهما التهجير؛ فإما الانضباط تحت هذا السقف، أو المزايدة انطلاقاً من منطلقاته نفسها. لذلك، أنتجت أنظمتنا مثقفين قوميين ودينيين، أكثر أصولية من سياسة بلدانهم. ولا نعرف ماذا سيفعل هؤلاء في عصر التحولات الكبرى التي تطالبهم بالتزاماتٍ، تكاد تكون متناقضة لكل ما قالوه ومارسوه وكتبوه، طوال حياتهم الثقافية، والأمثلة كثيرة. حيث أتت ثورات الربيع العربي لتختبر ما قلناه وكتبناه، على هذا الصعيد، وتؤكد صدقيته.