مصر ومبارك وحلم النمر الاقتصادي الضائع

مصر ومبارك وحلم النمر الاقتصادي الضائع

27 فبراير 2020
المصريون ثاروا ضد فشل مبارك في يناير2011 (فرانس برس)
+ الخط -
كان في استطاعة الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، الذي خلعته ثورة 25 يناير، أن يحول مصر إلى واحدة من النمور الاقتصادية الصاعدة، وأن يسبق معجزة النمور الآسيوية التي نقلت دولا عدة بجنوب شرق أسيا من دائرة الفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي والأزمات المالية المتلاحقة والمديونيات العالية إلى نمور اقتصادية صاعدة، سريعة النمو، لديها اقتصادات قوية، صادراتها تغزو دول العالم، منتجاتها تتمتع بقدرة تنافسية هائلة.

وكان في مقدرة مبارك، إن أراد، أن يسبق تجارب سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايوان وغيرها من الدول الآسيوية ودول أميركيا اللاتينية التي صنعت معجزة اقتصادية في غضون سنوات قليلة، وأن يتقدم على تركيا التي بدأت تنمية اقتصادها عقب صعود حزب العدالة والتنمية في العام 2002، حتى أضحت الآن ضمن مصاف مجموعة العشرين التي تضم أقوى 20 اقتصادا في العالم.

التجربة البرازيلية

كان لدى مبارك ونظامه من الإمكانيات ما يجعل مصر تسبق تجربة النهضة البرازيلية، تلك التجربة التي قادها لولا دا سيلفا، الذي ولد فقيرًا وذاق بطش العسكريين وإجرامهم، وعقب فوزه في انتخابات 2002 حول البرازيل من بلد يلفظه الجميع بسبب فقره ومديون للخارج ويرفض صندوق النقد الدولي إقراضه والتعامل معه إلى واحد من أقوى 10 اقتصاديات في العالم.

كما نجح دا سيلفا وعبر النهضة الاقتصادية لبلاده في إعادة مليوني مهاجر من الخارج، وجذب نحو 1.5 مليون مستثمر لبلاده، ورفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بقيمة 200 مليار دولار، كما نجحت الدولة في عهده في سد عجز المدفوعات من خلال إحداث قفزة في التصدير خاصة البُن، النفط، الخضر، الفواكه، اللحوم والدواجن.

تجربة مهاتير محمد

كان في استطاعة مبارك أن يسبق تجربة مهاتير محمد التي استوحاها من أفكار نهضة محمد علي باشا الحديثة بمصر، حيث استطاع رئيس وزراء ماليزيا في غضون سنوات قليلة تحويل بلاده من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية مثل القصدير والمطاط ويعيش أهلها في الغابات إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاع الصناعة والخدمات بنحو 90% من الناتج المحلي.

كما نجح الرجل في خفض نسبة الفقر من 52% إلى 5% في عام 2002 ورفع متوسط دخل الفرد من 1200 دولار سنويًا إلى 9 ألاف دولار وخفض نسبة البطالة إلى 3%.
كان من الممكن أن يحصن مبارك الاقتصاد المصري ضد المخاطر الخارجية والداخلية بحيث تكون لديه القدرة على صد الأزمات الطارئة والعنيفة كما فعلت النمور الآسيوية في العام 1997، مستفيدا من الإمكانيات الهائلة التي يتمتع بها الاقتصاد المصري.

إمكانيات ترتكن على قاعدة صناعية وانتاجية قوية، ومساحات أراض كبيرة صالحة للزراعة، ومياه النيل، وخدمات متنوعة، وسياحة قلما تتوافر في دولة من دول العالم، وموقع جغرافي متميز على البحرين المتوسط والأحمر، وممر مائي عالمي هو قناة السويس، وعمالة رخيصة، وسوق ضخم، ومدخل للقارة الأفريقية، ومركز متوسط بين الدول العربية، ومركز ثقافي وحضاري، وثقل سياسي، وقطاع مصرفي ومالي قوي، إضافة إلى ملايين المصريين المغتربين الذين يعدون مخزونا من الخبرات والتحويلات المالية.

كان في استطاعة مبارك أن يحدث انقلابا في منظومة الصحة والتعليم والصناعة في مصر، وأن يرقى بالمواطن ومستواه المعيشي، وأن يحافظ على القاعدة الصناعية للبلاد، وأن يستفيد من القوى البشرية الهائلة، ومن ملايين الخريجين الشباب وطلبة المعاهد والجامعات.

وأن يستفيد كذلك من خبرة بلاده الطويلة في مجال الزراعة باعتبار أن الفلاح المصري هو أقدم مزارع على الأرض، وأن يستفيد من الإمكانيات اللامحدودة لبلاده خاصة في مجال الثروة الطبيعية والتعدينية.

حصاد المؤتمر الاقتصادي

كان لدى الرئيس الذي قامت عليه ثورة شعبية في 2011 فرصة ذهبية في النهوض بالاقتصاد المصري في وقت مبكر، وتطبيق التوصيات الصادرة عن المؤتمر الاقتصادي الكبير الذي دعا له مبارك عقب 40 يوما من توليه منصبه في العام 1981 ومن أبرزها مقاومة الفساد والتهرب الضريبي والرشوة والركود وسوء توزيع الدخل وتوسيع دائرة الحريات وتعميق الديمقراطية باعتبارها مدخلا حقيقيا للتنمية الاقتصادية.
كان من الممكن أن يستغل مبارك الفرصة التاريخية التي واتته في بداية التسعينيات من دعم مالي دولي وخليجي قوي وإسقاط نصف الديون الخارجية المستحقة على البلاد والبالغة 52 مليار دولار في ذلك الوقت عقب مشاركة الجيش المصري في حرب تحرير الكويت، وأن ينشط القطاعات المدرة للنقد الأجنبي وفي مقدمتها الصادرات والاستثمارات الأجنبية والسياحة وتحويلات المغتربين.

كان عليه أن يستغل الفترة الطويلة التي قضاها في الحكم والممتدة لنحو 30 عاما في مد البنية التحتية لكل متر من الأراضي المصرية، ومد شبكات الصرف الصحي والطرق والمياه العذبة والكهرباء إلى نجوع وقرى مصر، وأن يركز على قطاعات متعلقة بالمواطن ومعيشته مثل الأغذية وصناعة الأدوية والمواصلات.

التفريط في ثروات البلاد

كان عليه أن يستفيد من ثروات البلاد من الغاز بدلاً من أن يمنحها للكيان الصهيوني بثمن بخس وفي صفقة مريبة لا يزال دافع الضرائب في مصر يدفع ثمنها الباهظ حتى اللحظة في شكل غرامات ضخمة في المحاكم الدولية توجه لخزانة دولة الاحتلال.

كان في استطاعة مبارك أن ينقلب على تجربة سلفه السادات الاقتصادية، وأن يعمق النموذج الإنتاجي كما فعلت دول النمور الأسيوية وأميركا اللاتينية، لا أن يدعم النموذج الاستهلاكي والطفيلي والتهليب ونهب ثروات الدولة، ويشجع سياسات "تسقيع الأراضي"، وبيع تروس وآلات المصانع في سوق الخردة، وإقامة ناطحات سحاب على أراضي المصانع التي تم تصفيتها وبيعها للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، والسمسرة في ديون مصر الخارجية.

كان من الممكن أن يضرب مبارك بيد من حديد على فئة المحتكرين وسماسرة السلع الذين ظهروا على السطح عقب سياسة "الانفتاح على البحري" التي تبناها السادات في فترة السبعينيات.

عاطف عبيد ورموز الفساد

كان لدى مبارك فرصة في التخلص من الرموز السياسية الفاسدة التي نهبت المال العام، وفرطت في أصول الدولة، وشردت آلاف العمال، وعمقت الرشوة والمحسوبية وسياسة التوريث في المؤسسات الحكومية.
كان من الممكن أن يستغني الرئيس الذي خلعته ثورة 25 يناير وبسرعة عن شخصيات مثلت عبئاً شديداً على نظامه، مثل عاطف عبيد الذي أثيرت حوله الشبهات وقت أن كان وزيرا للتنمية الإدارية، لا أن يوليه وزارة من أخطر الوزارات التي استحدثها نظام مبارك وهي وزارة قطاع الاعمال التي كان من أبرز مهامها إطفاء مصانع مصر، وبيع أصول الدولة، وتعميق تواجد الأجانب في القطاع الاقتصادي.

بل ورغم كل شبهات الفساد التي لاحقت عاطف عبيد طوال سنوات طويلة فقد عينه مبارك رئيسا للوزراء لسنوات عدة شهدت فيها البلاد حالة ركود وتعثر مالي وفساد وبطالة وغلاء غير مسبوقة.

أوبئة يوسف والي

كان من الممكن أن يطيح مبارك بوزير زراعته، يوسف والي، الذي شغل منصبه لسنوات طويلة نجح خلالها في تخريب زراعة مصر، وتدمير محصول القطن، واستيراد الأدوية المسرطنة.

أن يحاكم يوسف بطرس غالي وزير الاقتصاد ثم المالية على تسببه في ضياع أموال التأمينات والمعاشات التي ضارب بها في الأسهم والأوراق المالية وخسرها في البورصة، أن يحاكم إبراهيم سليمان وغيره.

أن يمنع أحمد عز من احتكار قطاع الحديد والاستحواذ على أهم مصنع حديد مملوك للدولة هو "حديد الدخيلة" في صفقة مريبة، أن يمنع رجال الأعمال الجدد من اغتراف أموال البنوك والحصول على مليارات الجنيهات بلا ضمانات كافية أو بدون ضمانات من الأصل، أن يبعد رجال الأعمال عن دوائر صنع القرار والمطبخ السياسي ورئاسة لجان مجلس الشعب المؤثرة مثل الخطة والموازنة والصناعة والزراعة، أن يحاكم الذين نهبوا أموال البنوك وفروا بها الى الخارج.

مبارك كانت لدية فرصة ذهبية في تحويل مصر إلى واحدة من النمور الاقتصادية الصاعدة، لكنه لم يفعل، لأنه كان أقرب إلى الموظف البيروقراطي الذي ينفذ سياسات أكثر من كونه، قائدا مبتكرا ومديرا ناجحا.

المساهمون