19 سبتمبر 2024
مصر دولة بوليسية
إعادة قراءة مسار الحوادث التي جرت في مصر، منذ ما قبل ثورة 25 يناير 2011، من سقوط حكم حسني مبارك، فالانتخابات ووصول محمد مرسي أول رئيس منتخب ديمقراطياً، وبدء تشكل الآمال بدولة مدنية، وصولاً إلى 3 يوليو/تموز2013 حين انقلب العسكر على تلك الآمال، توضح إعادة قراءة هذا كله أن عبد الفتاح السيسي، بعد مجيئه إلى السلطة، لم يفعل شيئاً سوى إعادة الدولة إلى سكّتها التي كانت عليها في أثناء حكم مبارك دولة بوليسية. بخلاف أن النسخة الجديدة من هذه الدولة خلعت عن نفسها ثوب الحداثة القشري الذي كانت تتدثّر به، ونزعت قناع الديمقراطية الخادع الذي كان يخفي وجهها الحقيقي، لتنكشف الأنياب في عهد حكم العسكر، ولتبدو الدولة بوليسيةً، تأكل أبناءها وتدمر مجتمعهم، لا دولةً يكون الأمن فيها حافظاً للمجتمع وأبنائه. فقد تبيّن أن الانقلاب العسكري الذي عطل العمل بالدستور، فور انقضاضه على السلطة، وقرأ السيسي بيان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية يومها، وأعلن فيه عن خارطة الطريق للإصلاح في البلاد، لن تقصي أحداً من أبناء المجتمع وتياراته، تبين أنه لن يقصي أحداً فحسب، بل وضع خارطة طريق للجميع، لجعلهم هدفاً دائما للقمع والمنع من التظاهر، مع الزج في السجون والتغييب القسري، وحتى القتل في الشوارع. وإن كان ذلك البيان المدماك الأول لإقامة الدولة البوليسية، باعتباره كان خطاباً ديماغوجياً بامتياز، فقد تبعته تشريعات وقوانين وقرارات مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان ومعاييرها، كرّست السلطة سلطة دولة بوليسية. وهي قرارات وقوانين، وصل عددها، منذ يوليو/تموز 2013 حتى نهاية مايو/أيار 2015 إلى 510 قوانين وقرارات، صدرت وأقرّت ونشرت في الجريدة الرسمية، حسب تقرير "المرصد المصري للحقوق والحريات" في يونيو/حزيران الماضي. وصدرت هذه القرارات عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ووزارة الداخلية ووزارة العدل، وعن النيابة العامة المصرية.
كان قانون التظاهر الذي صدر في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 أهم أدوات النظام المصري في قمع معارضيه، وحرمانهم الحق في التعبير. وكان أكثر الدلائل على إيغال هذا النظام في استخدام القوة بحق كل من يفكر في الوقوف في وجه آلته القمعية. كما كان البيانَ الأمثل لحقيقة هذا النظام، وما يحضر له من مستقبل قاتم لمصر ولأبنائها، على عكس ما وعد به في بيان قواته المسلحة في اليوم الأول من انقلابهم. وإذ نص القانون على "استخدام تدريجي للقوة، يبدأ من التحذيرات الشفهية إلى إطلاق الرصاص المطاطي، مروراً بخراطيم المياه والهراوات والغاز المسيل للدموع"، إلا أن قوات الأمن المصرية تعمد، عادةً، إلى اختصار هذه الآلية برمتها، باستخدامها الرصاص الحي مباشرة ومن دون تحذير، وتوجيهه إلى مناطق قاتلة من أجساد متظاهرين سلميين. وقد نقض محللون كثيرون هذا القانون، باعتباره اعتداءً على الحريات التي كفلها الدستور، في حين اعتبره آخرون مخالفاً برمته للدستور، ويجب إلغاؤه.
صحيح أن عدلي منصور الذي جاء به الانقلاب رئيساً مؤقتاً، إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية، أقرّ في 23 يناير/كانون الثاني 2014 بأن الدستور الجديد وضع نهايةً للدولة البوليسية في مصر، وأن لا عودة لهذه الدولة في البلاد، لأن "مصر طوت صفحة مضت في علاقة الشعب بالشرطة"، على حد قوله. لكنه تناسى أن قانون التظاهر الذي صدر، قبل تصريحه بحوالي شهرين، شرّع لتلك الدولة أن تعود وأن تتعمق أكثر مما كانت عليه سابقاً. وجعل علاقة الشرطة بالشعب تصبح مثل علاقة المفترس بالفريسة، فلا ترى في الشعب سوى أهداف يجب إما إرداؤها بالرصاص أو اصطيادها ووضعها خلف القضبان في أحسن الحالات.
ولأن الأنظمة القمعية تعرف كيف تفرز أعداءها عن أصدقائها، إن كان لها أصدقاء سوى المخبرين، وتعرف من منهم يشكل التهديد الأخطر على سلطتها، استهدف النظام المصري الإعلام والصحفيين منذ اليوم الأول لانقلاب سنة 2013، حين قطع بث قناة مصر 25 واعتقل ثمانية من العاملين فيها، فاتحة لبدء حملة قمع حرية الإعلام في البلاد. ووصل به الأمر إلى الاستهداف على خلفيات كيدية، كما حصل في الفترة نفسها، حين اقتحمت قوات الأمن مكاتب القنوات التابعة لشبكة الجزيرة، وأوقفت عدداً من العاملين فيها. ووثقت "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان" أن اعتقال الصحفيين بدأ منذ الأيام الأولى للانقلاب.
وتراوحت الانتهاكات بحق الصحفيين والعاملين في المجال الإعلامي بين منع تغطية الحوادث، وتوجيه الشتائم لهم، والتعدي بالضرب عليهم والوقف عن العمل، والاحتجاز على ذمة التحقيق، وإتلاف معدات صحفيين، وإتلاف ممتلكاتهم الخاصة، وتقديم البلاغات والمحاضر ضدهم، مروراً بتوقيفهم وتوجيه الاتهامات لهم، وصولاً إلى حالات خطف وقتل في مراكز الاعتقال، أو القتل المباشر في أثناء تغطية الحوادث، كما حصل لبعضهم. علاوة على حالات اقتحام مقار مؤسسات إعلامية، وإغلاق قنوات تلفزيونية وإذاعية ومقار وكالات إعلامية ومواقع إخبارية ومكاتب الصحف. ويضاف إلى ذلك التوقف عن منح تصاريح العمل للمؤسسات الإعلامية الأجنبية، أو تجديد تصاريح العاملين في بعض الوكالات. كما وثق "مرصد صحفيون ضد التعذيب" الانتهاكات ضد الصحفيين في سنة 2015 حيث وصل عددها إلى حوالي 500 حالة في هذه السنة وحدها. وكان المرصد نفسه قد وثق 674 حالة انتهاك لحرية الصحفيين في 2014، وهو ما استطاع المرصد رصده في هذين العامين. ويدعم النظام المصري إجراءاته تلك بقوانين هدفها قمع حرية الصحافة، ليس أدل عليها سوى المواد رقم 33 و102 و188 من قانون الإرهاب الجديد. ووصل حجم التهديد الذي يطاول الحريات الإعلامية إلى درجة جعلت كثيرين يعتبرون مهنة الصحافة بأنها "المهنة التي تؤدي إلى الموت في مصر".
تعد المؤسسة الأمنية في الأنظمة القمعية نفسها المؤسسة الوحيدة الفاعلة في البلاد، والحارسة لحدودها ضد الأعداء الخارجيين والداخليين. وهي بذلك تعتبر جميع المؤسسات الأخرى، من وزارات وغيرها، فائضاً عن الحاجة، وفي أحسن الأحوال، مكملاً لعملها. وهي بذلك تختصر الدولة بشخصها، لتحيلها دولة بوليسية، وهو ما يظهر لنا كل يوم في ممارسات أهل السلطة في مصر.
كان قانون التظاهر الذي صدر في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 أهم أدوات النظام المصري في قمع معارضيه، وحرمانهم الحق في التعبير. وكان أكثر الدلائل على إيغال هذا النظام في استخدام القوة بحق كل من يفكر في الوقوف في وجه آلته القمعية. كما كان البيانَ الأمثل لحقيقة هذا النظام، وما يحضر له من مستقبل قاتم لمصر ولأبنائها، على عكس ما وعد به في بيان قواته المسلحة في اليوم الأول من انقلابهم. وإذ نص القانون على "استخدام تدريجي للقوة، يبدأ من التحذيرات الشفهية إلى إطلاق الرصاص المطاطي، مروراً بخراطيم المياه والهراوات والغاز المسيل للدموع"، إلا أن قوات الأمن المصرية تعمد، عادةً، إلى اختصار هذه الآلية برمتها، باستخدامها الرصاص الحي مباشرة ومن دون تحذير، وتوجيهه إلى مناطق قاتلة من أجساد متظاهرين سلميين. وقد نقض محللون كثيرون هذا القانون، باعتباره اعتداءً على الحريات التي كفلها الدستور، في حين اعتبره آخرون مخالفاً برمته للدستور، ويجب إلغاؤه.
صحيح أن عدلي منصور الذي جاء به الانقلاب رئيساً مؤقتاً، إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية، أقرّ في 23 يناير/كانون الثاني 2014 بأن الدستور الجديد وضع نهايةً للدولة البوليسية في مصر، وأن لا عودة لهذه الدولة في البلاد، لأن "مصر طوت صفحة مضت في علاقة الشعب بالشرطة"، على حد قوله. لكنه تناسى أن قانون التظاهر الذي صدر، قبل تصريحه بحوالي شهرين، شرّع لتلك الدولة أن تعود وأن تتعمق أكثر مما كانت عليه سابقاً. وجعل علاقة الشرطة بالشعب تصبح مثل علاقة المفترس بالفريسة، فلا ترى في الشعب سوى أهداف يجب إما إرداؤها بالرصاص أو اصطيادها ووضعها خلف القضبان في أحسن الحالات.
ولأن الأنظمة القمعية تعرف كيف تفرز أعداءها عن أصدقائها، إن كان لها أصدقاء سوى المخبرين، وتعرف من منهم يشكل التهديد الأخطر على سلطتها، استهدف النظام المصري الإعلام والصحفيين منذ اليوم الأول لانقلاب سنة 2013، حين قطع بث قناة مصر 25 واعتقل ثمانية من العاملين فيها، فاتحة لبدء حملة قمع حرية الإعلام في البلاد. ووصل به الأمر إلى الاستهداف على خلفيات كيدية، كما حصل في الفترة نفسها، حين اقتحمت قوات الأمن مكاتب القنوات التابعة لشبكة الجزيرة، وأوقفت عدداً من العاملين فيها. ووثقت "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان" أن اعتقال الصحفيين بدأ منذ الأيام الأولى للانقلاب.
وتراوحت الانتهاكات بحق الصحفيين والعاملين في المجال الإعلامي بين منع تغطية الحوادث، وتوجيه الشتائم لهم، والتعدي بالضرب عليهم والوقف عن العمل، والاحتجاز على ذمة التحقيق، وإتلاف معدات صحفيين، وإتلاف ممتلكاتهم الخاصة، وتقديم البلاغات والمحاضر ضدهم، مروراً بتوقيفهم وتوجيه الاتهامات لهم، وصولاً إلى حالات خطف وقتل في مراكز الاعتقال، أو القتل المباشر في أثناء تغطية الحوادث، كما حصل لبعضهم. علاوة على حالات اقتحام مقار مؤسسات إعلامية، وإغلاق قنوات تلفزيونية وإذاعية ومقار وكالات إعلامية ومواقع إخبارية ومكاتب الصحف. ويضاف إلى ذلك التوقف عن منح تصاريح العمل للمؤسسات الإعلامية الأجنبية، أو تجديد تصاريح العاملين في بعض الوكالات. كما وثق "مرصد صحفيون ضد التعذيب" الانتهاكات ضد الصحفيين في سنة 2015 حيث وصل عددها إلى حوالي 500 حالة في هذه السنة وحدها. وكان المرصد نفسه قد وثق 674 حالة انتهاك لحرية الصحفيين في 2014، وهو ما استطاع المرصد رصده في هذين العامين. ويدعم النظام المصري إجراءاته تلك بقوانين هدفها قمع حرية الصحافة، ليس أدل عليها سوى المواد رقم 33 و102 و188 من قانون الإرهاب الجديد. ووصل حجم التهديد الذي يطاول الحريات الإعلامية إلى درجة جعلت كثيرين يعتبرون مهنة الصحافة بأنها "المهنة التي تؤدي إلى الموت في مصر".
تعد المؤسسة الأمنية في الأنظمة القمعية نفسها المؤسسة الوحيدة الفاعلة في البلاد، والحارسة لحدودها ضد الأعداء الخارجيين والداخليين. وهي بذلك تعتبر جميع المؤسسات الأخرى، من وزارات وغيرها، فائضاً عن الحاجة، وفي أحسن الأحوال، مكملاً لعملها. وهي بذلك تختصر الدولة بشخصها، لتحيلها دولة بوليسية، وهو ما يظهر لنا كل يوم في ممارسات أهل السلطة في مصر.