مصر إذ تخشى الفَناء
السيسي في مؤتمر "الوحدة الأفريقية" (يونيو/2014/الأناضول)
مِن أفجع تُرّهات خطاب عبد الفتاح السيسي، في 23 يوليو الجاري، قوله إن مصر تواجه تحدياً "وجودياً"، يتطلب التكاتف لمواجهته. وكعادته، لم يُشر إلى طبيعة العدو الذي يريد القضاء على مصر، ولا إلى كيف يفعل ذلك. وإنما قفز مباشرة إلى ضرورة تكاتف المصريين، واصطفافهم معاً، لمواجهة ذلك العدو. وهو، في كل خطاباته السابقة، طالب المصريين بالوقوف وراءه، بل أمامه لمواجهة التحديات. لكنه، هذه المرة، آثر المبالغة إلى حدّ التحذير من خطر مصيري، يتهدد مصر والمصريين، كأن مصر في سبيلها إلى الزوال، أو أن قاهرة المعز ستمحى من خارطة العالم.
وأول ما يلفت الانتباه في التحذير المبالغ فيه الربطُ فيه بين حادث الفرافرة وما اعتبره "مخطط إسقاط الدولة" الذي هو جوهر ذلك التحدي الوجودي. على الرغم من أن قتل عدد من العسكريين ليس ذا دلالة لجهة "إسقاط الدولة"، وإلا لسقطت مصر بعد مذبحة رفح الأولى، قبل عامين، ثم رفح الثانية. ولزادت قابليتها للسقوط مع كل عسكري، أو شرطي، يُقتل أو يموت. فهذا ربط تعسفيّ زائف، أما الخطورة الحقيقية فتكمن، أولاً، في سياق الحدث، وفي عجز الدولة عن منعه، بل وتكراره مرتين في أقل من شهرين في المكان نفسه بالتفاصيل نفسها. وهذا سياق يتعلق بترتيباتٍ أمنيةٍ، وقدراتٍ عسكريةٍ تنظيميةٍ ذاتيةٍ، لا علاقة لها بمدى "وجودية" الخطر، أو ضخامة ذاك العدو المزعوم وخطورته. وهو، بالمناسبة، عدو مجهول هلامي، غير محدد المعالم، ولا الصفات. ويبدو أنه شبكةٌ لا نهائية من الدول والأجهزة والجماعات، بل والأشخاص، داخل مصر وعلى حدودها وفي المنطقة وفي العالم كله. فقد أصبح كل موقفٍ لا يساير موقف القاهرة الرسميّ استهدافاً لمصر. وكل تحركٍ، أو سلوكٍ، لا يطابق مصلحة مصر كما تراها السلطات، إما خيانةً لو كان صاحبه مصرياً، أو مؤامرةً دنيئة إن كان غير مصري.
ليس الغرض من هذه الفوبيا التخويف، أو تفزيع المصريين، وحسب، وإنما تحريضهم على كل من يخالف رأي أهل السلطة والسلطان، فيضاف إلى زمرة الأعداء، ولو دخل في عداد الأموات يكون أفضل. وبعد شيطنة الداخل بكل أطيافه، بما فيها التي وقفت وراء السيسي في 3 يوليو، جرت شيطنة كل الأطراف العربية والإقليمية والخارجية التي لم توافق منطق 3 يوليو ولم تنافقه. واتسعت دائرة الأعداء كمّاً، لتشمل كل من لا يبارك أو يشارك، وكيفاً، ليصبح كل رفض أو اعتراض خطراً على الدولة، بل على "وجود" مصر.
هل وجود مصر في حالتها هذه خطر على أحد غير أبنائها؟ هل لدى أي طرف داخلي، أو خارجي، حاجة أو حتى قدرة على الإضرار بمصر، أكثر مما يفعل حكامُها بعوامِّها؟ الخشية على وجود مصر، الخشية كل الخشية من الخلل والفشل في قيادة مصر. فتلك الهستيريا دليل عجزٍ وعتهٍ، وليست، كما يروّج المصابون بها، نتاج عظمة وتعاظم قيمة مصر ومكانتها ودورها. فالهشاشة في الداخل تسبب رعباً وفزعاً من أي حادثٍ، أو اضطراباً، ولو محدوداً. والغباء في الخارج يجعل الفشل في عين صاحبه مؤامرةً واستهدافاً. ويصبح المشهد هزلياً، في عملية متواصلة من اختلاق الأعداء في الداخل والخارج، بينما الدور في الخارج يتضاءل، وتماسك الداخل يتآكل. وهكذا، في متلازمة مأساويةٍ، تربط إنقاذَ الوطن المُضام بتفويض القائد الهُمام. ويصير استدعاء الدين والوطنية والنخوة غطاءً لتعميق الانكشاف الوطني، والجهر بالتخلي القومي، واستمراء التدني القيمي.