مصابيح حنا مينه ... اليابانية
مصابيح حنا مينه ... اليابانية
الفائزون اليابانيون الثلاثة بجائزة نوبل في الفيزياء (أكتوبر/2014/أ.ف.ب)
بعد ستين عاماً على نشر حنا مينة روايته الأولى "المصابيح الزرق"، أعلنت الأكاديمية الملكية للعلوم في السويد، الأسبوع الماضي، منح جائزة نوبل في الفيزياء لثلاثة علماء يابانيين، لاكتشافهم تقنية انبعاث ضوء أزرق في مصابيح "ليد". وقالت إن إيسامو أكاساكي وهيروشي أمانو وشوجي ناكامورا "نجحوا حيث فشل الجميع"، وإن اكتشافهم أحدث "ثورة" تكنولوجية، إذ يُحدثُ اقتصاداً كبيراً في استهلاك الطاقة. وعلى ذمته (الواسعة؟)، يرى الزميل ياسر البنا من غزة أن ما صنعه اليابانيون الثلاثة "أفضل اختراعات البشرية"، إذ نجحت مصابيحهم الزرق في تخفيف حدة الكآبة التي أصابت الغزيين، جرّاء الظلام الذي يُغالبونه كثيراً، منذ ثماني سنوات، مع ارتفاع أسعار الوقود ومخاطر استخدام الشموع، وفي وسعها أن تضيء منزلاً كاملاً أربعة أيام بشحنة كهربائية مخزنةٍ على بطارية سيارة، بل إنها تعمل بنجاعةٍ على البطاريات التالفة.
لم ينشغل السوريون البسطاء في رواية حنا مينة بالذي أشغل به اليابانيون الثلاثة مداركهم بشأن الاستهلاك المنخفض للطاقة الكهربائية في مصابيح "ليد" الزرقاء، على غير حال المصابيح المتوهجة، والتي تنتج حرارةً كبيرة. لم يكن في وسع ناس الساحل السوري، في الرواية، وفي أربعينيات الحرب العالمية الثانية، أن ينصرفوا إلى غير الطاقة الإنسانية فيهم، والتي تشحنهم بالحب والحنان والألفة فيما بينهم، وبالقدرة على التعايش مع الفقر، وهم في أجواء حربٍ، بعيدةٍ وقريبة. كانوا يدهنون مصابيحهم باللون الأزرق، ليبهت الضوء وقت الغارات. وليس منسياً استخدامنا "النيلة" الزرقاء لتلوين النوافذ، لكي لا تظهر إضاءة المنازل، في أثناء حروبٍ مرّت مع إسرائيل، (لعل الذكرى تنفع)، من غير صنوف الحروب العربية الحادثة الآن.
كان السوريون في رواية حنا مينة موحّدين في مواجهة المحتل الفرنسي، وكانوا يقاومون الظلم وقلة ذات اليد، بالحب والوداعة والاطمئنان إلى بعضهم، في أجواء رومانسية ريفية، مع مذاق البحر، في عمرانٍ سردي شائق، دشّن به الكاتب الكبير مجرىً غزيراً لرواياتٍ أنتجها، واقتربت من الأربعين. كان السوريون ينيرون فضاءاتهم القلقة بمصابيح زرقاء، وبما يشعُّ به كفاحُهم موحدين، على غير هذه الأيام السوداء التي يُغالبون فيها محنةً مهولة، من تفاصيلها أن الوحدة الوطنية بينهم اختلّت، وأن ألوان الترويع والتقتيل التي يقترفها المحتل الأسدي تعصى على قرائح الأدباء البارعين ومخيلاتهم. لا يبدو أَن وقتاً كافياً يتوفر لسوريين عديدين، ليحوّلوا الإنارة البيضاء في منازلهم زرقاء، فيتوسلوا فيها نجاةً من براميل متفجرة وصواريخ وقاذفات. ولكن، هذه عمياء، كما الرصاص العبثي الذي يصيب ضحاياه كيفما اتفق، في غير حارةٍ وضاحيةٍ هناك. وثمّة العمى الذي يُشيعه الإرهابيون في غير مطرحٍ وناحية، وهذه غارات الحرب العالمية الجديدة على داعش لا تشحذ مخيلات المبدعين بشيء، من طراز الذي أوحت به غارات الألمان في الأربعينيات البعيدة لحنا مينة أن يكتب عمله الأول اللافت، والذي لم يحظ مسلسل تلفزيوني عنه، قبل عامين، بمشاهدةٍ واسعة، فمسلسل التقتيل والتشريد الجاري، بهمّة، في سورية، صرف العيون عنه.
جزى الله خيراً إيسامو أكاساكي وهيروشي أمانو وشوجي ناكومورو. مصابيحهم الزرقاء تُسعف أهل غزة شيئاً ما، في مقاومة ظلامٍ يريده المحتل الإسرائيلي حالاً دائماً. وفي "المصابيح الزرق" لدى حنا مينة، محطةٌ مضيئةٌ في ملحمة السوريين في مضيهم إلى الحرية، وإنْ ينكسر بعضُ الحب في أجواء الحرب، وإنْ يحدث صراعٌ بين فلاحين ومتنفذين يستخدمهم المحتل الفرنسي. .. ليس للحياة إيقاعٌ واحد، والأزرق ليس اللون الوحيد، ولا يُستعان به لتوفير الكهرباء وتظليل النوافذ إبّان الحروب فقط، بل لدفع الحسد أيضاً. تُرى، هل ثمّة ما يُحسد عليه السوريون الآن؟ هل نحسد الغزيين على بهجتهم بضوءٍ أزرق قادمٍ من اليابان؟