مشهدٌ حي من ميادين العراق... المسير نحو "الدروشة"!

مشهدٌ حي من ميادين العراق... المسير نحو "الدروشة"!

12 فبراير 2020
+ الخط -
إن شعور الفرد بمشكلة الجماعة يوّلد لديه ترفعاً عن مكاسبه وكينونته، يجعله متنازلا عن كل الألقاب والأسماء؛ بالرغم من أنه مطالبٌ بحقوق ولديه قائمة لا تعد ولا تحصى من مكاسب، على الأقل تسمى مطالب "دنيوية"، مثل الخدمات وتحسين المعيشة.. ولكن هنالك (دروشة) في انعزال النفس عن الذات وذوبانها في الجمع.

إن المشاهد الحيّة من الميادين وساحات الاحتجاج في العراق تضفي لك شعوراً بأنك تسير وسط أناس انعزلوا عن الدنيا، بينما هم أشد الناس تمسكاً بالحياة.. ولكن أي حياة؟ إنها الحياة التي تكتسب فيها الحرية والأمان والوطن.

ما أفرزته احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 هو ذوبان الحاجز الطبقي والابتعاد عن المكاسب الشخصية وتوحيد المطلب العام، الوطن لا غير. الشباب وكبار السن وبينهم أطفال لم يبلغوا السن القانونية، وهناك في الأطراف الأخرى نساء وفتيات لم يتجاوزن السن الجامعية، كلهم في عمل دؤوب وخدمة متنوعة.


لا يوجد اسم أو لقب، لا توجد مكانة اجتماعية ولا دينية حتى - كما اعتاد عليها الفرد في حياته الطبيعية - كلهم يخدمون بعضهم؛ منهم من يحمل النفايات ومنهم من يكنس ويمسح ومنهم من شكلوا حواجز أمنية ومنهم من يتبرع بماله لشراء الاحتياجات اللوجستية.

امتثل تنظيم الجماعة المشاركة في الاعتصامات التي استمرت لأسابيع لغاية واحدة وهي الوطن والمطالب. لقد زالت كل مقالات القداسة والترفع عن الغير باعتباره شعوراً إنسانياً طبيعياً، وأصبحوا كتلة واحدة وعائلة واحدة تبحث تقرير مصيرها لمواجهة السلطة.

دروشة وتصوّف خالص وغنوصية تطمح إلى أن تصل إلى رضا الوطن والمجتمع، لا يظهر عليهم الانكسار ولا التضرع ولكن بخدمة جماعية رائعة شكلوا فريقاً موحداً مجرداً من كل الانتماءات؛ القومية والدينية والمناطقية.

ورغم كثرة الأعداد وتخالط الجنسين؛ لم تسجل الساحات المحتجة أي حالة تحرش تذكر، وهذا دليل على خروج المحتج من دائرة الإنسان وغرائزه إلى دائرة الإنسان المتجرد والمنتظر لتكامل الروح في مواجهة الموت ربما، أو التغييب أو الاعتقال.

اعتكاف عن العمل والدراسة، تعطيل لكل مرافق الحياة، ابتداء من إضراب الطلبة، إلى إضراب النقابات واعتصام أصحاب الدخل المحدود.. أغلقت الأسواق أبوابها والمدارس والجامعات أيضا، وتعطلت الحياة، آملين في البحث عن حياة أخرى، هم يريدون رسمها وتسجيل مواصفاتها على ذوقهم الخاص. إن ما رأيته في ساحات النجف وبغداد وكربلاء كان أشبه بالتصوف للوطن!

دلالات