مشهدان مذهبيان مبْكيان مضْحكان

مشهدان مذهبيان مبْكيان مضْحكان

18 يونيو 2020
+ الخط -
حاولت الثورة في لبنان، منذ أسبوعين، أن تستعيد أنفاسها بعد احتباس دام ثلاثة أشهر، فكان لها أعداؤها بالمرصاد. ليس على الطريقة الديكتاتورية المباشرة، إنما بمزيجٍ من اثنين، قريبين لها. إعلامها الغوبلْزي الممانع، شنّ، قبل أسبوع من موعد أولى انطلاقتها، حملة منظّمة، من تهويل وتسخيف وتهوين وتخوين؛ خصوصاً تخوين يصدِّق على آخر النعوت التي أطلقها حسن نصر الله على أصحاب النيّة بالتظاهر. وتتوّج الحملة بمقالٍ يغني عنوانه عن قراءته، "ثوار السفارة"، تلميحاً يُراد له أن يكون لمّاحاً: أن الذين سيستأنفون التظاهرات الاحتجاجية غداً هم فرع من فروع "شيعة السفارة" الذين "باعوا" طائفتهم للإمبريالية الأميركية؛ أي الشخصيات الشيعية المناهضة لحزب الله. فكان يوم التظاهرة في السادس من الجاري؛ حيث أبدعت حشودٌ منظّمة، رثّة، هائجة، راجلة أو بالدّراجات، بالاعتداء على المتظاهرين، بالعصي والحجارة. تتنقل بين أحياء بيروت. تخترع، بالرصاص الحيّ، خطوط تِماس جديدة، وتنعش خطوطا أخرى قديمة. ولكن ليس بشعارات الحرب الأهلية، إنما بذاك الذي بات شهيراً، منذ اندلاع الثورة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. شعار "شيعة شيعة"، الذي لا يعني شيئا بحدّ ذاته، إنما يشير إلى الانتماء المذهبي - السياسي لهذا الرهط، بغرض التهويل، على أساس أن قيادته تملك صواريخ باليسْتية "دقيقة". في نهاية الليلة نفسها، راجَ تسجيل عبر المواقع المختلفة، يصف السيدة عائشة زوج الرسول، بأبشع الصفات.
بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، على هذه الموقعة المعادة، الحشد نفسه اجتاح وسط العاصمة، بالدرّاجات النارية أيضاً، صارخاً شعار "شيعة سنة"، أي مقدّماً نفسه بصفته شيعيا "غير متعصب تجاه 
السنّة"؛ ومضيفاً، مشدّداً، بالصراخ العالي، على ضرورة أن يحتفظ حزب الله بسلاحه، وإلا... مركِّزأً هذه المرّة غضبه على حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، اتفاقا مع سياسة حزب الله التي صارت الآن موسمية، القاضية بالضغط على سلامة، لكي يُخرج ما تبقى من الدولارات في لبنان نحو سورية؛ في سياسةٍ لم تَعُد غامضة، قائمة على مزج "المسارَين" السوري- الإيراني باللبناني، في وحدة واحدة للمصير.
ثم نقاشٌ على مواقع التواصل، وفي تلميحات بعض الصحف، تناول أصحاب المواكب السيارة بشيءٍ من الجدّية. هؤلاء الشباب، أليسوا متضرِّرين من الأزمة الاجتماعية؟ ألم تطاول نار الدولار بيوتهم؟ مأكلهم؟ مشربهم؟ بعضهم "حَنّ" على أولئك الشباب، وعمل مثل السيد المسيح "من ضربك على خدّك الأيمن، فأدر له الأيسر". أحزنهم عري شباب هذا الحشد، وبؤس ملامحهم. هالهم أن يكونوا "ضائعين"، لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية، الكامنة في الثورة على نظامٍ جرّدهم من كرامتهم، وحوّلهم إلى أداة تنفيذ تعليمات متضاربة. بعض آخر قال بالطبقية، إن الفقراء مصيرهم ومصلحتهم ورؤاهم يجب أن تكون واحدة. تناسوا، في غمرة "تمرْكسهم"، أن هؤلاء المنْفلتين المنظَّمين هم من "البروليتاريا الرثّة" التي تنتمي، بالتعريف، إلى الثورة المضادّة؛ يستخدمها الطغاة على أشكالهم، لتنفيذ مآرب يصعب الدفاع عنها علناً. شقٌ آخر بقي على عهده، أنه لا يجوز طرح سلاح حزب الله في شعارات الثورة، لأن أمر هذا السلاح "إقليمي"، ويتجاوز بالتالي قدرات الثورة. ما شكّل عنده عاطفةً "لطيفة"، وأحيانا محايدةً، وأخرى متجاهلة إزاء كل ما يصدر عن حزب الله. وثمّة من حلّل الموضوع، فقال إن "شبكة الأمان" التي أمّنها "الثنائي الشيعي"، حزب الله وحركة أمل، هي مصدر العيش لهؤلاء الجنود المنظَّمين غير الرسميين. وأن مرارة الدولار لم تصل إليهم بعد؛ ولكن... إنتظروا، فبيئة الثنائي الشيعي ليست كلها عائشة في بحبوحة. وإن الدولارات المهرّبة إلى سورية، دعماً لثنائي آخر سوري - إيراني، سرعان ما سوف يبتلعها، فتنفدْ. وقتها، سيكون هؤلاء بلا موْردٍ، ولو ضئيلا، وسيشكل رأس الحربة لثورةٍ تهزّ أركان النظام كله. المتسلّقون على ظهر الثورة، الحاسبون علاقتهم بمحور الممانَعة، كانت لهم حصتهم أيضاً: لم يقولوا شيئاً، وإذا قالوا، وصفوا أعمال الشغب وتسكير الطرقات على أبناء طوائف أخرى، باستنكار وتهيّب. الخلاصة أن النقاش مفتوح الآن، وقد لا يدوم، بين نقطتين: الهوية والمصلحة. الهوية المذهبية والمصلحة المعيشية. من يغلب الآخر؟ ولهذا المقام مقال آخر.

المهم الآن، ردود قيادات الطائفة المستهدفة بالهجوم، أي السنّة، المحبطين الضعفاء الذين يترقّبون من يتصدّر الدفاع عن حقوقهم المهدورة، بوجه شيعةٍ استأثروا بالقرار .. كيف يردّون؟ بمزيد من المذهبية، وإنْ هزيلة. من رأس هرمها وحتى "المجتمع المدني"، بصراحةٍ مقصودة، أو بمواربةٍ مفهومةٍ ومحسوبة. في أدنى هذا "المجتمع الأعلى"، تجد من يؤسّس لتجمع سنّي، يأخذ على عاتقه "الدفاع عن أهل السنّة"؛ ومن موقعٍ "أكاديمي" أحياناً. زعماء دينيون رسميون يبلغون الجمهور المتعطِّش الى أي ردّ صاعق على شتم السيدة عائشة أنهم يرفضون، ويستنكرون، ويشيدون بها. يليهم زعماء الصف الثاني ومن بعدهم الأول، سعد الحريري. وباستثناء رئيس الوزراء، الممثل "الرسمي" للسنّة، والذي ألقى خطاباً ملحمياً عن "إنجازاته"، العملاقة أبداً .. التي "شوّهها" بعضهم، ولم يدعوه إنجاز ما تبقى ("ما خلّونا")... فإن غالبيتهم، وباللغة المبطَّنة التي يفهمها الجميع، بكوا على بيروت، على صيدا وطرابلس، المحسوبات كلها على السنّة، بيروت خصوصاً .. مرّروا عدم مسؤوليتهم عن الذي حصل، مرتعدين أمام الشاشة، نابذين بذلك سكانها "غير الأصليين"، والمقصود طبعاً الشيعة، وليس غيرهم من الطوائف الأخرى؛ لا الأرثوذكسية المضْمحلة من زمان، أو المارونية التي يُحسب لها حسابٌ آخر. وإذا حاججتَهم، فلن يجدوا في جعبتهم أكثر من هذه الدُرر. وربما لم يفكّروا بها، فالمهم عندهم أنهم أعادوا ترسيم الحدود المذهبية بخطوطها العريضة، وبأقلامهم الشخصية. "شدّوا" العصب السنّي بما يكفي لتأبيد زعامتهم المذهبية، على اختلاف درجاتهم. ولا يحتاجون أكثر من ذلك. وعند هذا الحدّ، نقطة على السطر. ليعودوا إلى قصورهم، ويتفاوضوا حول حصّتهم الآتية.
ولكنهم ماذا فعلوا بالسنّي "المواطن البسيط"؟ أجّجوا كراهيته للشيعة، "الهاجمين على بيروت". فغذّوا بالمقابل عصبيةً شيعيةً هي بالأساس قوية، تحميها، بعد الصواريخ، المظالم القديمة وذكريات الهجرة الأليمة من البقاع والجنوب إلى العاصمة .. وبعد ذلك كله، يمكن لك أن تناقش، أو تفهم الموقف من "الرعاع الشيعة"، بمقارنتهم بنظرائهم، الأضعف منهم، الأقل تنظيماً، "الرعاع السنّة". وقد شاهدنا عيّنةً منهم في تظاهرات تأييد للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهجوم على المحطة التي أشار فيها أحد مذيعيها، وهو من أصل أرمني، إلى مذابح الأتراك ضد الأرمن .. فيعود ويُطرح سؤال الهوية والمصلحة على أفراد هذه الأفواج، صنو الأفواج المعادية، الشيعية، ابنة الطبقة الواحدة و"الوطن" الواحد.