مشكلاتنا الكثيرة نصنعها أحيانا بأنفسنا

تخيلوا معي لو تم إجراء استطلاع رأي محايد ونزيه جدا لمعرفة رأي الناس الحقيقي في أداء كل من حركتي فتح وحماس، في أعقاب وصلات الردح الأخيرة، خصوصا بعد تفجيرات منازل فتح في غزة!
وتخيلوا معي النتيجة، بعيدا عن إلقاء حماس اللوم على فتح، والعكس، فالناس في غزة، مثلاً، ماذا سيكون موقفهم من كل من فتح وحماس، وهم يكادون يسحقون تحت أرتال المشكلات التي تحفهم من كل مكان، بداية من مأساة مشردي الحرب الأخيرة، مرورا بتوقف عجلة الإعمار وعجلة الاقتصاد ومعه الحياة، جراء إغلاق كل المعابر، وليس ربما انتهاء بقدح زناد شرارة الفلتان بتفجير بيوت قادة فتح في غزة، وتوقف عجلات المصالحة الخشبية، وبين ثنايا هذه العناوين الفاجعة، تطل عشرات المشكلات الأخرى، مثل شح المياه وانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات الصحية وتلوث مياه البحر وتدهور البنية التحتية. وقائمة طويلة لا تنتهي من المنغصات التي تدفع الفلسطيني في غزة إلى القول "خربانة، وما إلها إلا الله".
والناس في الضفة على الجانب الآخر من الوطن، كيف تتخيلوا رد فعلهم في هذه البقعة المحتلة التي تتربع على عنوانها السياسي سلطة عباس، بلا حول ولا قوة، بينما تتحكم في تفاصيل حياتهم قوات الاحتلال وقطعان المغتصبين الذين لا يتورعون عن عمليات الدهس والإعدام والحرق للبشر وللحجر وللشجر، ولا يملون من إضافة زيت اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، ومنع المصلين من دخوله على نار الاحتقان من الطرق المقطعة بالحواجز، ومن الغلاء الفاحش في الأسعار، ومن حملات الاعتقال المزدوج لأبنائهم، تارة من سلطة التنسيق الأمني، وتارة أخرى من قوات الاحتلال، إضافة إلى قائمة طويلة أخرى من المنغصات لا تقل بشاعة عن قائمة المنغصات التي تغرق فيها غزة.
غير أن غزة تشارك الضفة والقدس المحتلتين هماً آخر، بمشاركة المشاعر الوطنية الجياشة والهم الوطني العام، جراء الاحتلال الجاثم على صدر الضفة والقدس، وجراء تسارع عجلة التهام الأقصى وعمليات التهويد والابتلاع له، ولما تبقى من أراضي الضفة المحتلة ببناء المغتصبات.
إبان الحرب، أخيراً، على غزة كانت مشاعر التحدي تسيطر على المشهد جراء ارتفاع الروح المعنوية الكبير على وقع عمليات المقاومة غير المسبوقة، إلى درجة أننا كنا نشاهد الناس، وحولهم جثامين عوائلهم الشهداء إلى جانب ركام منازلهم أو مصانعهم أو مصالحهم ولا ينشدون سوى قصيدة وطنية، أشبه بسمفونية رائعة، تطفح بمشاعر الصمود والتحدي للمحتل، تشد على أيدي المقاومة، وتطلب منها الاستمرار.
ولكن، وبعد توقف الملحمة، أفاق الناس على حجم الفواجع التي ألمت بالوطن، بشره وحجره وشجره ومقدراته وإمكاناته ومقومات صموده، من دمار وانهيار.
وكان الجميع يأمل أن يقف الجميع مع الجميع، وأن تصطف الفصائل مع السلطة الواحدة، بعد أن أتم الله المصالحة، وبعد أن أصبح لنا حكومة واحدة، إلا أن موقف سلطة الرئيس محمود عباس وحكومة الوفاق كان له وقع مدمر ومحبط، ربما أكبر بكثير من الذي شرعنا بها إبان الحرب العسكرية المدمرة على غزة.
فبدلا من حكومة وطنية واحدة قوية ومتينة، ذات مواقف وطنية صلبة، تقف مع شعبها المكلوم والمفجوع في غزة، ها نحن نرى حكومة متأرجحة، ومعابر مغلقة، وإعماراً لم يبدأ على وقع تراشق إعلامي، أعاد إلينا أجواء الانقسام.
وبدلا من وحدة موقف فلسطيني في وجه أعتى هجمة صهيونية، ها نحن نرى غزة تطفح بالاتهامات والاتهامات المضادة، وبعثرة عبثية لأوراق القوة التي راكمتها المقاومة خلال الحرب أخيراً.
ويحلو لبعضنا التساؤل: هل تكمن المشكلة في وسائل الإعلام التي تستخدم لاستعراض القوة البلاغية في شتم الآخر، حيث تكبر المشكلة، وتتضخم حتى يصعب حلها؟ أم أن المشكلة في القادة السياسيين الذين لم يفلحوا على مدى عشرات السنوات في صنع ماكينة إعلامية وطنية، قادرة على احتواء المشكلات المتولدة من رحم التدافع الفصائلي، عبر حقنها بالكوادر الوطنية المؤهلة الخبيرة، والمحصنة بالرؤية الوطنية غير المنحازة لمجريات الأحداث في الوطن المنكوب.