مشروع الدولة الواحدة.. خط دفاع فلسطيني

مشروع الدولة الواحدة.. خط دفاع فلسطيني

09 نوفمبر 2018
+ الخط -
أثار خبر توقيع الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، مطلع العام الجاري، على وثيقة الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة لغطا كثيرا، وانبرى عدد من محازبيه وغير الحزبيين المصنفين ضمن "اليسار الممانع" لنفي صحة التوقيع، واتهموا القائمين على الوثيقة بالتزوير، وحين ثبت أنه قد وقّع بالفعل، ادّعوا أنه وقع، ولكنه سحب توقيعه، بعدما اكتشف أنه قد تعرّض للخداع، كما جاء في مقابلة (فضيحة) أجرتها صحيفة الأخبار اللبنانية مع قيادي مجهول في الجبهة الشعبية، اتهم القائمين على الوثيقة، وفي مقدمتهم المناضل الراحل سلامة كيلة، بأنهم ينعمون بأموال البترودولار ويعيشون في دولة قطر، وهي ادّعاءات باطلة جملة وتفصيلاً.
حين فند كاتب هذه السطور ما جاء في المقابلة، التي لا تضاهيها في الحرفية الصحافية إلا الحرفية المخابراتية لعملية اغتيال جمال خاشقجي، بثلاث مقالات، واحدة منها في "العربي الجديد"، بعنوان "اليسار الممانع والدولة الواحدة في فلسطن"، لاذ هؤلاء بالصمت، وإن استمر بعض الديماغوجيين الذين لا يُؤخذون على محمل الجد بحملة الكذب والسب والقذف والتشويه التي لا تدل إلا على فقرهم المعرفي وتواضعهم الأخلاقي.
قبل أيام، وفي مقابلة مع صحيفة المصري اليوم، أوضح أحمد سعدات، أخيراً، سبب سحب 
توقيعه على الوثيقة بما يلي: "لأن اجتهادي بتأييد الوثيقة لم ينل تزكية الهيئة القيادية التي أمثلها، والتي اختلفت مع عدد من نصوصها، ورأت في توقيعي تجاوزاً لموقفها في مسألة لم تتناقش وتحسم داخلياً". وعليه، فإن من الطبيعي لمسؤول أول في تنظيم ديمقراطي أن يحتكم إلى المركزية الديمقراطية، وأن يحترم موقف الجماعة والهيئة التي يمثلها.
أي أن سعدات وقّع بالفعل، هذا أولاً، وأنه موافق على كل ما جاء في الوثيقة، وهو الأهم. وقبل مقابلته في "المصري اليوم" نُشر لسعدات مقال في 18 أغسطس/ آب الماضي جاء فيه: "ينبغي مقابلة شعار دولة اليهود القومية بشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية بمضمونها المؤهل لحل تناقضات عملية الصراع في فلسطين، وفق منطق ديمقراطي عصري تقدّمي وإنساني، ويجسد مقولة الحل العادل والشامل والدائم، ويهدف إلى تحرير اليهود والعرب الفلسطينيين في آن واحد".
وقبل ذلك، في لقاء مع مجلة الدراسات الفلسطينية (العدد 98، ربيع 2014)، أجاب سعدات على سؤالٍ عن الأفق السياسي المطلوب للحركة الوطنية الفلسطينية، قائلاً: "إنه يجب أن ينطلق على المستوى الاستراتيجي من إعادة تجميع عناصر البرنامج الوطني الذي فكّكته السياسة البرغماتية الارتجالية للقيادة المهيمنة على منظمة التحرير، وإحكام الربط بين أهدافها الوطنية الراهنة والتاريخية في الصراع الدائر في فلسطين وحولها، والتي يلخّصها حل الدولة الديمقراطية الفلسطينية في عموم فلسطين التاريخية".
استغراب كثيرين من محازبي سعدات، وجمهور اليسار الفلسطيني والعربي عموماً، واستهجان بعضهم موقفه من الدولة الواحدة، والذي ينسجم تماماً مع الموقف التاريخي للجبهة الشعبية والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، يعد كاشفاً بوضوح لحجم التشويه الفكري والمعرفي والثقافي والسياسي الذي أصاب "اليسار الرسمي العربي"، بعد عقود من الجمود الفكري والأيديولوجي، توّجها أخيراً بإلحاق نفسه بأحد محوري الاستبداد والتبعية في المنطقة، المختلفين ظاهرياً، لكنهما يتفقان واقعياً على إغلاق أي أفقٍ للتحول الديمقراطي، وإدامة أنظمة الاستبداد وتحييد الشعوب عن المشاركة في تقرير مصيرها، ومحاربة الهوية العربية، وتعطيل ممكنات بناء فضاءٍ عربيٍّ واحد.
لقد استطاعت قوى الإسلام السياسي، بشقيها السني والشيعي، بعد دخولها المتأخر معترك المقاومة، أن تفرض برنامجها ورؤيتها وتصوراتها على القوى العلمانية التي أَسّست للفعل المقاوم المعاصر، وصاغت برنامجه السياسي الذي ارتكز إلى فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، كرؤية استراتيجية لحل الصراع العربي الإسرائيلي، تقوم على مبدأ معاداة الصهيونية حركة عنصرية مرتبطة عضوياً بالإمبريالية العالمية، وضامنة مصالحها في منطقتنا. وتتناقض كلياً مع أهداف شعوب المنطقة، لا الشعب الفلسطيني فحسب، في التحرّر والحرية والاستقلال والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
تمكّنت قوى الإسلام السياسي من تعزيز النظرة الدينية للصراع على أنه مع اليهود، لا الصهيونية، لكن ليس هذا وحده ما دفع القوى العلمانية المقاومة، وفي طليعتها اليسار، إلى نبذ فكرة الدولة الواحدة، بل هو عامل أول من ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى ذلك. ثانيها حالة 
الاغتراب الفكري التي يعيشها اليسار العربي والفلسطيني، فهو لا يزال متمسّكاً بالماركسية وأدبيات الفكر اليساري بقوة القصور الذاتي، لا عن قناعة فعلية. إن مراجعة مواقفه السياسية الأخيرة تظهر جليا أن عقل اليسار لم يعد جدلياً، بل محكوماً بالشعاراتية المثالية، وهذا مبحث أوسع من تناوله بعجالة هنا. ثالث العوامل؛ هزيمة المشروع الوطني الفلسطيني والتحرّري العربي، وجاء صعود قوى الإسلام السياسي تعبيراً عن تلك الهزيمة ونتيجة لها في آن. حين كانت الثورة الفلسطينية في ريعانها، والأمل بتحرير فلسطين حيّا في أذهان وقلوب قادتها وقواها، حملت مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، لأنه كان مشروعاً واقعياً يجيب على سؤال: ما العمل بعد الانتصار على الصهيونية؟ المرتبط بسؤالين أشمل، بشأن هدف الثورة الفلسطينية النهائي وتكوينها القيمي والأخلاقي.
لكن، في زمن الهزيمة، تميل الشعوب إلى تبني خيارات عدمية مثالية، غير واقعية. حين أضحت فلسطين بعيدة المنال، ذوت فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، بما تمثل من استراتيجية سياسية واقعية وممكنة التحقق، وصعدت مكانها أفكار مثالية عدمية، من نوع النقاء العرقي لفلسطين بعد تحريرها، وطرد اليهود الذين جاؤوا من خارجها، حتى وإن نبذوا الصهيونية، وهي أفكارٌ علاوة على مثاليتها ولا واقعيتها، يمينية صرفة، لا تمت لليسار وفكره وأدبياته وأخلاقه بِصِلة.
عودة إلى موضوع وثيقة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة.. بعد وضوح الصورة، وتبيان حقيقة الادعاءات الباطلة عنها، وعن الموقعين عليها، المطلوب، وبإلحاح، دراسة التيار الوطني الفلسطيني، وفي مقدمته اليسار، الوثيقة ومناقشتها، بعقل منفتح ومخلص للقضية، ليس غارقا في نظريات المؤامرة، ولا مستقطبا لقضايا إقليمية خدمة لمصالح أحد محوري الرجعية والتبعية العربية، ومستعد لمواجهة المزاودين الديماغوجيين، لا الخضوع لابتزازهم، بهدف الخروج بصيغةٍ تعيد الاعتبار للموقف التاريخي للثورة الفلسطينية المعاصرة، المنادي بدولة ديمقراطية واحدة على كامل التراب الوطني الفلسطيني. من شأن هذا الأمر التأسيس لمشروع سياسي عملي، يطرح بديلاً لحل الدولتين الذي سقطت فيه القيادة الرسمية الفلسطينية، ويعتبر شرطاً للعمل على بناء خط الدفاع الأخير عن فلسطين، جغرافيا وشعب، من دون أي مبالغة، في وقتٍ نضج فيه مشروع تصفية القضية الفلسطينية، وأخذت معالمه تتكرّس واقعاً موضوعياً على الأرض، والعالم الرسمي يستعد لطي صفحة قضية الشعب الفلسطيني إلى الأبد.