مسودة دستور الجزائر[3/5]: اعتراف بالحراك ومخاوف من "تقطير الحريات"

مسودة دستور الجزائر [3/5]: اعتراف بالحراك ومخاوف من "تقطير الحريات"

13 مايو 2020
أقرّت مسودة الدستور اعترافاً رسمياً بالحراك الشعبي (العربي الجديد)
+ الخط -
على الرغم مما تحمله مسودة الدستور الجديد المطروحة للنقاش في الجزائر من مؤشرات ايجابية وبنود تقدمية في مجال توسيع هامش الحريات السياسية والمدنية إلى حدّ إلغاء "الحدود القديمة" والسماح للجزائريين بسقف عالٍ من التطلعات التي تقطع مع ممارسات الماضي الأمني، فإنّ ذلك لا يلغي مخاوف قائمة من استمرار سياسة "تقطير الحريات"، وضبطها بترتيبات قانونية أضيق تكرّس هيمنة الأجهزة الأمنية ومؤسسات السلطة في الجزائر الجديدة، أخذاً بعين الاعتبار تجارب سابقة. ويرى البعض أنه من السابق لأوانه الحكم على صورة المشهد الجزائري مستقبلاً في ما يتعلّق بوضع الحريات السياسية والمدنية وحرية الإعلام وغيرها، وما إذا كانت التغييرات الدستورية الجديدة قادرة فعلياً على إنهاء "أزمة الحريات" التي استمرت طويلاً في البلاد، وتحسين صورة الجزائر في هذا المجال.

وأقرت مسودة الدستور اعترافاً رسمياً ودستورياً بالحراك الشعبي الذي أنهى حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وأطاح نظامه، إذ تمت دسترة هذه الثورة تحت بند "حرص الشعب على ترجمة طموحاته بإحداث تحولات اجتماعية عميقة من أجل بناء جزائر جديدة، والتي عبر عنها سلمياً منذ الحركة الشعبية التي انطلقت في 22 فبراير/ شباط 2019 في تلاحم تام مع جيشه". لكنّ الاعتراف الدستوري بالحراك الشعبي، يفترض تحقيق مجمل المطالب السياسية والمدنية التي رفعها الجزائريون في تظاهرات وفعاليات هذا الحراك المختلفة خلال عام كامل، وتضمينها في متن الدستور الجديد، وذلك من أجل منع العودة إلى ممارسات العهد السابق، والتي كانت تتميز بتضييق كبير على حق الاجتماعات والتظاهر، وتقييد إنشاء الجمعيات والأحزاب، وملاحقة المعارضين ومحاصرة الصحافة المستقلة. كما يفترض إنهاء هيمنة الأجهزة الأمنية والاعتقالات التعسفية والتصفية السياسية، التي كانت جزءاً من الدافع الرئيس للثورة على نظام بوتفليقة، وقبلها خلال محطات احتجاجية عديدة شهدتها الجزائر.

وتضمّنت المسودة الدستورية التي ستطرح لاحقاً للاستفتاء الشعبي بعد صياغتها النهائية بنوداً تقدمية على صعيد الحريات. تمّ إدراج بند يلزم السلطات بمنع أي تقييد للحقوق والحريات الأساسية إلا في الحالات التي ترتبط بحفظ النظام العام أو حماية حريات أخرى. كما نصّ بند آخر على تجريم التعذيب والاعتقال التعسفي وحق الموقوفين في الحبس المؤقت في الحصول على تعويض، وحماية الأشخاص عند معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، ومنع التصنت خارج نطاق القانون، عبر حماية سرية المراسلات والاتصالات الخاصة في أي شكل كانت، ومنع تسليم أو إبعاد أي لاجئ سياسي، وحماية ممارسة العِبادات من دون تمييز. كما تضمّنت المسودة إقراراً، للمرة الأولى، بحق ممارسة الاجتماع والتظاهر بمجرد التصريح للسلطات بدلاً من إلزامية الحصول على ترخيص منها.

كذلك، فتح الدستور باباً واسعاً لتطوير وتوسيع شبكة المجتمع المدني، عبر إقرار حق إنشاء الجمعيات بمجرد التصريح بذلك لدى السلطات، بدلاً من التدابير الحالية التي تفرض الحصول على اعتماد من السلطات. كما سحب الدستور الجديد من المحافظين صلاحية حلّ الجمعيات التي لا تحلّ إلا بقرار قضائي، ومنع الإدارة والسلطات العمومية من عرقلة إنشاء الأحزاب السياسية، وقد تضمن بنداً يعزّز مشاركة الشباب في الحياة السياسية. وأقرت المسودة منع الرقابة المسبقة على الصحافة وحريتها بكل أشكالها، وحق المواطن في الحصول على ردّ من السلطات على أي التماس أو طلب استفسار يتقدم به.

وبرأي خبراء في القانون الدستوري، فإنّ المسودة شهدت تطوراً في منسوب الحريات والضمانات الدستورية لحماية الحقوق العامة والحريات السياسية والمدنية، لكن المسودة لم تضع محددات كافية لذلك، وأسندت الأمر إلى القوانين الخاصة بكل مجال من مجالات الحقوق والحريات. إضافة إلى أنّ طبيعة اللجنة الدستورية وتركيبتها البشرية التي تكونت من خبراء في القانون الدستوري، فرضت تعاملاً تقنياً مع النص الدستوري، ما أفرغه من الروح السياسية.

وفي السياق، يؤكد أستاذ القانون الدستوري في جامعة سطيف شرقي الجزائر، نصر الدين معمري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ مسودة الدستور "أضافت 23 اقتراحاً في باب الحريات تجعلها إضافة نوعية ثمينة لمجموعة الحريات الفردية والجماعية التي جاء بها تعديل 2016، والتي صِيغت ضمن ما يعرف بالجيل الرابع في الحقوق، لتضمنها الإشارة إلى حقوق البيئة وحقوق الإعلام والثقافة وحرية الصحافة ومنع عقوبة الحبس في حق الصحافيين". لكنه يشير إلى أنّ "اللجنة الدستورية عملت على تضخيم الحقوق والحريات بشكل غير منسق، للتغطية على بقاء طبيعة نظام الحكم الرئاسي". وخلص معمري إلى أنّ "التعديل الدستوري جاء دون التطلعات، والخطأ كان منذ البداية في تركيبة اللجنة الدستورية وتشكيلتها من خبراء قانون دستوري ليس لهم الجرأة الكافية لتقديم مقترحات على المستوى السياسي".

وعلى الرغم من هامش الضمانات الدستورية الجديدة، فإنّ كثيراً من الأحزاب السياسية المعارضة التي ما تزال محكومة بهاجس عدم الثقة بالخطوات التي تطلقها السلطة، تنظر إلى التعديلات الدستورية في شقها المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية والحريات العامة بكثير من الريبة، خصوصاً أنّ السلطة عادة ما تتجاوز الدستور والقوانين في هذا المجال. وفي هذا الإطار، وصفت كتلة "البديل الديمقراطي" المسودة الدستورية برمتها بأنها "ضدّ إرادة غالبية الجزائريين، وانفرادية تكرس ثقافة الاستبداد"، فيما رأت "جبهة العدالة والتنمية" التي كانت تحتضن اجتماعات قوى المعارضة والتغيير خلال فترة الحراك الشعبي، أنّ "توقيت المسودة الدستورية أصلاً والظروف الحالية غير ملائمة لفتح نقاش بشأنها، بسبب الجو الذي أوجدته النظرة الأمنية في التعامل مع النشطاء السياسيين وشباب الحراك، من خلال الاعتقالات التي عرفتها الكثير من الولايات، وعلى وقع الأحكام التي تصدر هنا وهناك ضدهم". كذلك عبّرت "حركة مجتمع السلم" عن أنّ "التعديلات الدستورية لا تلغي المخاوف على صعيد الحريات وتأسيس الجمعيات وحرية الإعلام، بسبب إحالة ترتيبات ذلك إلى القوانين والتنظيمات".

فما المقصود بهذه المخاوف وبمسألة الإحالة إلى القوانين؟ يشرح ناشطون في مجال الحقوق والحريات في الجزائر هذه المسألة عبر أمثلة عدة. ففي الجزائر يحيل الدستور الكثير من الأحكام والضمانات إلى القوانين الخاصة بكل مجال، وضمن هذه القوانين تجد السلطة والأجهزة الأمنية مساحة كافية لوضع اشتراطات ومحددات تمكنها من عرقلة أي استحقاقات وحريات. فإذا كان الدستور يضمن بوضوح حق الاجتماع والتظاهر نظرياً، فإنّ صياغة الترتيبات التي تحدد كيفية ممارسة هذا الحق في القانون، وبحكم التجارب السابقة، يمكن أن تتضمن إمكانية منع السلطات أي تظاهرة أو اجتماع لأسباب أمنية، أو بمبررات تتعلق بالحفاظ على النظام العام. ينطبق هذا الأمر أيضاً على إنشاء الجمعيات، إذ يمكن أن يوضع بند في قانون الجمعيات يتيح للسلطات حق التحفظ على إنشاء جمعية أو حزب ما تحت مبررات عدم توفر الشروط في الأشخاص أو لكون بعضهم خطر على الأمن العام. كما أنّ منع التنصت والولوج إلى المعطيات والمراسلات الشخصية أمر تتضمنه القوانين الحالية، لكن الأجهزة الأمنية تجد المبررات والمخارج لتبرير مثل هذه التجاوزات.

من جهته، يعتقد القيادي في "الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان" أحمد منصري، أنّ "المشكلات المرتبطة بالحقوق والحريات في الجزائر تتجاوز الدستور والقوانين إلى الممارسات العملية لمؤسسات السلطة وهيمنة الأجهزة الأمنية على بعض المجالات الحيوية، وكذا الضغوط الممارسة على الإدارات والقضاء، وهو ما يخلق حالة من الاستبداد الحقيقي، وتجاوزات وانتهاكات جسيمة". ويضيف منصري في حديث لـ"العربي الجديد": "لدينا مشكلة في الجزائر منذ عام 1962 تتعلق بتطبيق الدستور والقوانين، بحيث يخضع ذلك للتقدير والمزاج والظروف، أكثر مما يخضع لنصّ الدستور أو القانون، بدليل أنّ بعض النصوص والتدابير تطبق في منطقة، ولا تطبق في أخرى، وهذا يخلق دائماً مشكلة وجدلاً بشأن إخضاع المؤسسات والأجهزة للدستور وليس العكس، وخير دليل على ذلك ما يحدث في الفترة الأخيرة، وفي ظلّ الرئيس الجديد والجزائر الجديدة، وبعد عام من الحراك، من اعتقالات ومحاكمات للناشطين وتضييق على الصحافة وغيرها".

المساهمون