مسلمون تحت الحصار

مسلمون تحت الحصار

14 يوليو 2016
+ الخط -
لم أكن يوماً من المعتقدين بوجود مؤامرة غربية ضد الإسلام تحديداً، ولا أميل، في العموم، إلى تفسير أحداثٍ معينة على أنها جزء من حربٍ على الإسلام والمسلمين. بيد أن أحداثاً جرت في الشهور القليلة الماضية تشير بوضوح إلى وجود صراع ثقافي بين غربٍ يبتعد عن الاحتفاء بتنوعه الثقافي واستثماره ومسلمين يحاولون الحفاظ على ما يعتبرونها بعض مظاهر هويتهم الدينية الهامة.
سنّت بعض المقاطعات السويسرية في الشهور القليلة الماضية تشريعاتٍ لها صلةٌ مباشرة بوجود المسلمين فيها، وتأثيرٌ واضح على حريتهم في الالتزام بتفسيراتهم الدينية الشخصية لما لا يجوز للمسلم القيام به. جرَّم التشريعُ الأول رفضَ المصافحة باليد بين أي شخصين. جاء هذا التشريع، بعد امتناع طلاب مسلمين عن مصافحة معلمتهن في بداية اليوم الدراسي. صدر بعد ذلك تشريعان يرتبطان بالسباحة، فبعد رفض فتاتين مسلمتين يافعتين السباحة في مسبح فيه ذكور، رفضت المقاطعة السويسرية التي يعيشون فيها منحهم الجنسية السويسرية لهذا السبب تحديداً (لم أسمع أي إشارة إلى عوائق قانونية أخرى من بعض المهتمين بالأمر).
تلا ذلك التشريع، في سويسرا أيضاً، منعُ السباحة في المسابح العامة بزيٍّ يغطي الجسم كله، في إشارةٍ إلى ما يطلق عليه زي السباحة "الشرعي" الذي ترتديه بعض المسلمات في المسابح والشواطئ العامة. وفي فرنسا، أصرَّت مدينة فرنسية على ضرورة التزام طلاب المدارس بالوجبة الغذائية التي توزّع عليهم، والتي تحتوي، في بعض الأيام، على لحم الخنزير. وأخيرا، دار جدل في بريطانيا حول صوم أطفال المدارس، وما إذا كان ذلك نوعا من الإضرار بهؤلاء الأطفال.
لكي تكتمل الصورة، وجب التنويه إلى الحجج التي تبرّر تلك التشريعات والقواعد الجديدة. فمصافحة الأستاذ طلابه في بداية اليوم الدراسي تعتبر، حسب ما سمعت، تقليداً راسخاً في سويسرا، يهدف إلى توطيد العلاقة بين الطالب وأستاذه، كما أن السباحة رياضة أساسية وإجبارية في مدارس كل دول الغرب تقريباً، ولا يختلف الامتناع عنها كثيراً عن الامتناع عن مواد دراسية أخرى. ويعتبر زي السباحة الكامل مصدراً محتملا للميكروبات والجراثيم، حتى لو صنع من مادة أزياء السباحة الحديثة التي تغطي أجزاء محدّدة وصغيرة من الجسم. وفي فرنسا، تم التأكيد على أن لحم الخنزير مصدر البروتين الأساسي في الوجبة المدرسية التي يُفترض فيها التوازن بين العناصر الغذائية المختلفة التي يحتاجها الطالب المدرسي. وفي نظر معارضي صيام الأطفال في بريطانيا وغيرها، يؤثر الامتناع عن الأكل والشرب في ساعات النهار كلها على تركيز الطلاب واستيعابهم المواد الدراسية، وربما فشلهم في الاشتراك بفاعلية في الأنشطة الرياضية والدراسية الأخرى. ينطبق الأمر نفسه على عمال المصانع (وكانت هناك سابقة في إيطاليا، مُنع فيها العمال المسلمون من الصوم)، أو حتى على بعض المتخصصين في مهنٍ تحتاج قدراً عالياً من التركيز، كالجراحين على سبيل المثال.
لهذه التشريعات والتوجهات مبرّراتها إذاً، من وجهة نظر من سعوا إليها وأقرّوها. ولكن، لا يمكن أبداً، ومن ناحية المبدأ، فصل تلك الأمور عن سياقها العام، وهو سياق يجد المسلمون فيه أنفسهم في موقف دفاعيٍّ طوال الوقت. على سبيل المثال، ما الذي يدفع بعض المسلمين في الغرب اليوم إلى دعوة جماعات المثليين جنسيا (وبعضهم مسلمون) إلى حضور موائد إفطار رمضانية (وهو ما حدث في جامعاتٍ أميركية خلال شهر رمضان الفائت) في الوقت الذي يعتقد فيه هؤلاء المسلمون أنفسهم أن المثلية الجنسية من كبائر الإثم التي يدينها الله، بصورة صريحة ومطلقة في كتبه المقدسة؟
الإشكالية هنا أن القناعة بوجوب ذلك التواصل من منظور ديني لا تبدو محرّك تلك المبادرات.
السياق الواضح لتلك الدعوات هو حادث إطلاق النار في مدينة أورلاندو في شهر يونيو/حزيران 2016. لم يتضح لي مصدر الضغوط التي أدت إلى تلك الدعوات. ولكن، شعرتْ منتديات المسلمين في بعض الجامعات الأميركية، حسب بعض منظميها، أن إدانة الحادث لا تكفي، وإنما على تلك المنتديات أن تظهر احترامها جماعات المثليين بصورة عملية من خلال دعوتهم حتى إلى مناسبةٍ دينيةٍ بالأساس. يتجاوز الأمر هنا التسامح والتعايش المطلوبين إلى اتخاذ مواقف لا يدعمها تنظيرٌ صادق نابع من إيمان حقيقي، فيدل بذلك على هزيمةٍ ثقافيةٍ، وليس على تجديدٍ أو اجتهاد مزعوم.
لماذا يمكن لتلك الأحداث أن تكون مؤشراً على حصار المسلمين في الغرب إذا، وليس مجرد تشريعاتٍ محايدةٍ تهدف إلى الصالح العام، كما تفهمه بعض الدول الغربية؟ الواقع أن كثيراً من تلك الأفكار التي تعرِّض المسلمين لتلك المواقف يشترك فيها المسلمون مع اليهود المتدينين (الأرثوذكس تحديداً) وربما مع المسيحيين المتدينين في بعضٍ منها. لا أستطيع الجزم بعدم وجود ماض لكل من تلك التشريعات. ولكن، يفرض السياق الحاضر نفسه مرة أخرى على تفسير الموقف، فالتشريعات الجديدة تظهر في سياقٍ يبدو فيه توجّس من الإسلام يظهر بوضوح في خطاب سياسيين غربيين، يحظى خطابهم المعادي للتنوع بشعبيةٍ متزايدة، وإن نال المسلمون النصيبَ الأكبر من ذلك العداء، لأسبابٍ مرتبطةٍ بأوضاع وأحداث راهنة.
أما في حالة الجماعات المتديّنة الأخرى، فهناك خلفية تاريخية معروفة تسمح لليهود المتدينين، مثلاً، بقدر كبير من الحرية في تحديد أنماط تفاعلهم الاجتماعي، بناء على معتقداتهم الدينية. ينطبق الشيء نفسه على جماعات المسيحيين المتدنيين، نظراً لمكانة المسيحية في ماضي الدول الغربية وحاضرها. لا يمتلك المسلمون خلفية اليهود التاريخية، ولا الإسلام مكانة المسيحية في التراث الغربي، لكنهم يمتلكون واقعاً ينسحب فيه ما يقوم به أي شخص ذي خلفية مسلمة (حتى لو لم يكن متديناً، كما يبدو الحال مع منفذ هجوم أورلاندو) على المسلمين جميعاً في دول الغرب. وقد يزيد الأمر سوءاً كثرة المسلمين النسبية، وظهورهم الواضح في المجتمع، وربما زيادة الالتزام الديني بينهم (وحسب فهمهم له) عن غيرهم.
خلاصة الأمر أنه إذا كانت العلاقة بين الإسلام والغرب أكثر تعقيداً وتركيباً من محاولة تصويرها مؤامرةً على الإسلام والمسلمين، فإن تعقيدها هذا يحيل النظر إلى تلك العلاقة على أنها محاولة من المليار و300 مليون مسلم للقضاء على الآخر إلى ضربٍ من الحماقة الفجّة. فأشكال الصدام الثقافي لا تقتصر، بالتأكيد، على عمليات عنفٍ ضد مجتمعاتٍ أو جماعاتٍ معينة، لكنها تشمل كل أشكال الرفض والحصار الثقافي التي تُشْعر جماعات معينة داخل المجتمع باستهداف مبادئها وقيمها، أو تضعها في موقف يحتم عليها الاختيار بين الالتزام بتراثها الثقافي أو الديني أو القبول المجتمعي. تفترض بعض تلك السياسات أن الاندماج يعني بالضرورة التنازل الكامل، وليس التفاوض المستمر على مبادئ عامة، تسمح بالتعدّد والتنوع، من دون أن ترفض، في الوقت نفسه، أن تكون لكل جماعة نظراتها القيمية التي تفرض عليها مواقف بعينها في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية. وإلا ماذا يعني التعدّد والتنوّع؟
المقصود، هنا، أنه في الوقت الذي لا يُتوقع أن تلتزم المجتمعات الغربية في مجموعها بالنظرات القيمية الخاصة بالجماعات المسلمة أو غيرها من الجماعات الدينية المحافظة، فلا يجوز، بالمنطق نفسه، للنظرات القيمية الخاصة بأي جماعاتٍ أخرى مهيمنة داخل تلك المجتمعات أن تُلزم الجماعات المتديّنة. أقول لا يجوز ذلك بزعم "حياديّة" النظرات القيمية للجماعات المهيمنة، حيث لا توجد نظرة قيمية محايدة أصلاً، بما في ذلك النظرات اللاأدرية أو التي لا تهتم باتخاذ مواقف قيمية في قضايا بعينها. كما لا يجوز ذلك، بزعم أن الجماعات المهيمنة الجماعات الأصلية في المجتمعات الغربية؛ فقد تعكس نظرات الجماعات المسلمة والمتديّنة الأخرى النظرات الأصلية نفسها للمجتمعات الغربية، أكثر من الأجيال الجديدة لما تعتبر نفسها جماعاتٍ أصلية. يدل على ذلك استمرار وجود التيارات المحافظة، غير المسلمة، وتأثيرها الواضح في القضايا السياسية والاجتماعية في الدول الغربية.
الأمل الآن هو ألا تنتشر الحماقة سالفة الذكر، ليصل المسلمون إلى النقطة التي يعتقدون فيها حقاً أنهم مصدر شرور العالم، فيصبح الخيار بين التزامهم الديني وهويتهم الوطنية محسوماً للنسبة الأكبر منهم. أتحدث هنا عن المسلمين في الغرب، بيد أن الأمر ينسحب، وبسرعة، على المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، ليس فقط لإجرام من اعتقدوا أن دواء تلك المجتمعات هو القضاء الفعلي عليها، ولكن أيضاً لحماقة أولئك الذين يروّجون خطاب اليمين الغربي المتطرف الذي يزدريهم هم أنفسهم، كما يزدري غيرهم.

دلالات

A3679657-5221-4ECE-92E6-39E2DE03FA90
عمرو عثمان

كاتب وباحث مصري. يعمل أستاذًا مساعدًا في قسم العلوم الإنسانية بجامعة قطر. درس العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حصل على الدكتوراه من جامعة برنستون الأميركية. تشمل اهتماماته البحثية الدراسات الإسلامية والفكر العربي الحديث والمعاصر.