مسلسلات مصرية مضادة للثورات

مسلسلات مصرية مضادة للثورات

27 يونيو 2019
+ الخط -
كان لظهور الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، أول مرة بثيابه البيضاء وعمامته وشبح ابتسامةٍ تتهيأ في الأيام المقبلة لأن تكون ضحكة عريضة، دلالة قريبة الشبه جدا وشبه متطابقة مع ذلك السيناريو الذي عاشته مصر من ثماني سنوات وأشهر، مع فارق الخبرة والإخراج وتكلفة الإنتاج والمونتاج بالطبع، وإن كانت الدلائل كلها تشير إلى أن المُخرج واحد وكاتب السيناريو واحد، والقضاء وشاشة التلفزيون، سيكونان أصحاب البطولة الأولى والأخيرة أمام جماهير دفعت الدم في الميادين، ثم خرجت، في نهاية المسلسل، مغلوبةً على أمرها بقبول الوضع النهائي الذي يعلن: "راح ضابط وهو مبارك وجاء ضابط وهو السيسي"، "وراح ضابط آخر وهو البشير وجاء ضابط آخر كحميدتي أو غيره"، و"كله بالقانون وبالإقناع، واللي مش عاجبه ميزاننا يروح يوزِن بره". وللشهداء بالطبع الجنة، وندعو للجرحى بسرعة الشفاء، ونقول للشباب المغرَّر بهم إن المجال مفتوح أمامهم على مصراعيه للقيام بأدوارهم، سواء في العاصمة الجديدة أو القاهرة الجديدة أو الخرطوم الجديدة. مسلسلاتٌ تشبه، إلى حد كبير، تلك المسلسلات الرمضانية المصرية التي يتم طبخها في أروقة الأجهزة الأمنية المكلفة بالإنتاج، وهي للعلم "مدنية جدا حتى النخاع"، ولها طواقم إخراج، تخرّجوا من معاهد السينما، ولها كَتَبة "يُنظر لهم بالبنان أيضا".
نحن نعيش مسلسلاتٍ ضاحكة بطعم الثورة، وبقضاة ثوريين أيضا لهم بلاغة الثورة وفصاحتها ووكلاء نيابة لهم منابرهم (ولا تنس أن بدل العدوى للقاضي منهم ثلاثة آلاف جنيه مصري)، وهذا بالطبع يكلف جهات الإنتاج مبالغ طائلة، علاوة على ارتفاع سعر الكاميرات والعدسات، ولا تنس بالطبع الصناديق الزجاجية في قاعات المحاكم، كي لا تخرج الأصوات الشاذة إلى العالم الأجنبي وننشر غسيلنا الوسخ هناك لدى أعداء الأمة وحقوق الإنسان الممولة بالطبع من جهاتٍ أجنبية لها أجنداتها. وكلها أشهر بعد أن نضمّد الجراح، وتأتي حكومة تكنوقراط ويتم طبخ برلمان محترم (يقف في ضهر رئيسه) ثم يعود الجيش إلى مهامه القتالية، فلسنا طلاب سلطة، ولكننا كخدّام فقط للشعب، والشعب هو السيد (ونور عنينا)، والله والله والله إن خدمة الشعب أعزّ علينا كثيرا من الحكم.
مفردات متشابهة إلى حد كبير في مسلسلي مصر والسودان، على الرغم من الفارق الزمني، إلا أنها "مسلسلات نيلية" مسلية، وإن كانت خفة الظل الفطري عند أبناء السودان (وخصوصا حميدتي) قد طغت على تكتيكات الكاميرا والجهامة المصطنعة التي رأيناها عند إخوانهم المصريين سابقا، إلا أن المطبخ واحد، ومورِّد البهارات واحد، وأدوات الطبخ واحدة، وحتى المذيعون والمذيعات واستوديوهات التصوير وخبرات الضيوف من الاستراتيجيين، وخصوصا من الأجهزة الأمنية أو المحسوبين عليها، ولا مانع أيضا من جولاتٍ مكوكية (لأبو الغيط) لجسّ النبض هنا وهناك، فنحن أمةٌ عربيةٌ واحدة.
ثانيا، وهذا هو الأهم، الدول التي لديها ديمقراطياتٌ عريضةٌ تتحمّل التظاهرات، فرنسا مثلا، أما في أشباه الدول (مثلنا) فالأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات من الصبر (آه أومّال إيه؟؟) ".. أصلكم مش عارفين المواضيع كويس"، أنا درست موضوع الدولة ده خمسين سنة.. آه والله، وعلى فكرة هقولها بصراحة: "أنا ما ليش في السياسة"... يعني اللي هيقرب منها هشيله من على وش الأرض. .. هذه المفردات وإن تمت صياغتها بالدارجة السودانية، قد تسمعونها بخفة ظل من حميدتي، خلال الأشهر أو السنوات المقبلة، وهذا ما قد يؤجّج الغيرة ما بين السودان ومصر بسبب خفة دم حميدتي، إلا أن لدى الإخوة في استوديوهات أبو ظبي أو الرياض القدرة على إعادة اللُّحمة (الثمثيلية) ما بين الإخوة في أرض النيل، لأنه نهرٌ واحدٌ وشعبٌ واحد وخفة ظل واحدة، حتى وإن تفوّق حميدتي بالفطرة على نظيره المصري في بدايات المسلسل السوداني، على الرغم من حداثة السودان في الموضوع، وفي تاريخها السينمائي كذلك، ولأن ثقل الظل أيضا لا حيلة للتكنولوجيا أو الإخراج فيها.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري