مسرحيةُ بيروت

مسرحيةُ بيروت

25 اغسطس 2020

من مشاهد الخراب بعد الإنفجار في مرفأ بيروت (تصوير حسين بيضون)

+ الخط -

ثمّة من تكون رؤوسُهم على شاكلة دهاليز معقّدة، سهولا منبسطة، جبالا تتبعها أودية، أو حتى شلالات. رأسي أنا من نوع الدَرَج حيث تجلس الفكرة (أو الشعورُ) لبرهة، قبل أن يلاقيها المعنى، وهي إن قرّرت ارتقاءَ السلّم، فلكي تنضج وتتركّب وتتبلور. يكون الدرج طويلا في العادة، بدرجاتٍ لا نحتاج دوما أن نصعدها كلها، لحسن الحظ، بل لنقل إننا نادرا ما نبلغ أعلاها، لأنها مخصصة للحظات متفرّدة تمنّ الحياةُ علينا بعدم تكرارها.
عندما استفقتُ يوم أمس، وجدتُني جالسةً في منتصف الدرج، أراجع الأحداث منذ انفجار المرفأ في 4 أغسطس/ آب. وكنت، كلّما أصعد درجة، أرى جديدا في المشهد، فأزداد دمارا واتسّاعا إلى درجة تجعلني أفكّر بالنزول بغية المعاودة من جديد للتحقّق. وهكذا فعلت. كسرتُ قواعد اللعبة التي وضعتها بنفسي، وتذرّعت بالبرد. أجل، بردتُ هناك في عزّ الصيف، وصرت أتصبّب عرقا، ثم غابت الشمس واقترب المساء. هكذا وجدتني أصعد درجَ رأسي في الساعة التي يسمّونها ساعة الدموع، تلك الحائرة بين ارتخاء الضوء وسيلانه، قبل أن يتجمّد ويقسو كالفحم.
ثم خطر لي أن ما أراه وأعيشه أشبه بمشهدٍ مسرحي، عبثي، وأن فيه شخصيات تشبه أبطال بيكيت، تنتظر غودو في رقعة أرضٍ لا تني تضيق عليهم، تضيق وتضيق، حتى تصير بحجم حبّة رمل. وتساءلت: لو عشت الحرب الأولى ببشاعتها وقتلاها الغارقين في الوحول، ثم الحرب الثانية بقبحها ودمارها، فهل كنت لأعتبر أن ما جرى لي في الأيام في الماضية هو الأصعب والأقسى على وجه الأرض؟ الحقيقة، من غير العادل أن أقارن. أنا أريد بطلا واحدا، وهو وحيد وحزين ويعيش في بيروت المدمّرة بعد انفجار مرفأها. ثمّة درجٌ رخاميٌّ أبيض يمتد من زاوية المسرح الأمامية، إلى الزاوية الخلفية المقابلة، وهو يرتفع فوق الركام والدخان. تظهر امرأة لا تبانُ ملامحُها، عمرُها، ترتدي ثيابا كثيرةً فوق ثياب. تقف بداية أسفل الدرج، تلقي حمولتها، وتبدأ تروي علاقتها برأسها / الدرج. لولاه، لما عرفت كيف تفكر، كيف تحبّ، تكتب، أو تتوقف عن البكاء. تخرج من جيوبها أغراضا: مشطا مكسورا ودبوسا براقا، بوصلة، قداحة، مصّاصة لموازنة السكّر في دمها، قنينة ماء، وغليونا، تضعها جميعا في كيس تربطه في زندها. بعد قليل، تصعد أولى الدرجات، لأنها تحتاج أن تفكّر. منذ الحادثة ورأسها معطّل. لا، لم تكن حادثة، منذ الكارثة، الجريمة، المجزرة. أجل، ما أن تصل إلى الدرجة المناسبة، ستُري الجميع ما تراه، وسيفهمون كل شيءٍ ما أن تفهم هي. لكن، كلما علت، اختلفت الأمور عمّا كانت عليه في الدرجات السابقة، وتخفّفت هي من بعضٍ من ثيابها الثقيلة. بين الحين والحين، تجلس لتستريح، وفي استراحتها تلك، في كل مرّة، تعيد تناول الأمور نفسها، إنما من زاوية أخرى: قصة زواجها، علاقتها بالأبناء، والدها المرحوم، أحلامها في الحياة، منزلها قبل أن يحطّمه الانفجار. بيروت. البحر، المرفأ...
في منتصف الدرج، تتمدد لتنام، لكن ضحكة ما توقظها.. وما هي إلا لحظات، حتى يظهر لها رجلٌ ينزل الدرج مسرعا باتجاه الأسفل.. تسأله إلى أين وصلت، إلى الدرجة الأخيرة يقول لها ضاحكا، لكنه يأبى أن يخبرها عن الذي رآه من فوق. وإذ تصرّ وتتوسّل، يخبرها بأنه مستعجل ويجب أن يصل إلى بيته، الواقع هناك، تحت تلة الركام الزرقاء، حيث تنتظره العائلة. 
في نهاية المسرحية، تقف البطلة عند أعلى الدرجات، قائلة إنها الآن ترى بيروت كلّها من فوق، لا تفصيل فيها لا تراه، بل إنها ترى البلاد كلها، والبحر المتوسط، وحتى سورية وقبرص وفلسطين. وهناك، عند القمّة، ترقص وقد باتت خفيفة ترتدي قميصا رقيقا. وفي المشهد الأخير، تتعلّق بستارةٍ بيضاء تتدلّى من سقف المسرح، وتروح تلفّ جسدها بها، قبل أن ترمي نفسها من الأعلى، إلى وسط الركام.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"