مستقبل القوى الرئيسية في مصر

مستقبل القوى الرئيسية في مصر

01 سبتمبر 2016
(غيتي)
+ الخط -

تعيد المجتمعات إنتاج مشاكلها على فترات زمنية متقاربة أو متباعدة حين تهرب من الإجابة عن الأسئلة البديهية وتواجه نفسها بالحقائق على الأرض قبل محاولات تغييرها. في أي مرحلة انتقالية، صعبة لأي دولة، لا بدّ أن يعرف المجتمع قواه الرئيسية بشكل واضح ويطرح موازين قوتها ومدى قدرتها على الفعل والتأثير، وذلك قبل المضي قدمًا في أية حلول صراعية أو تفاوضية. ففي مصر على سبيل المثال، يمكن اعتبار أن هناك ثلاث قوى رئيسية تحكم المشهد وأي حل للوضع المتأزم في البلاد لن يستطيع تجاوزها. هذه القوى هي الجيش والإخوان المسلمون والكنيسة.

تتشابه هذه القوى في أن عمرها أكبر من عمر الجمهورية التي نشأت عام 1952، وأنها تعبّر عن دوائر اجتماعية واسعة تشمل الأعضاء والمتعاطفين الذين يقدرون بالملايين. كما تتشابه أيضا في أن لكل منها جذرًا ضاربًا في التربة الوطنية المصرية عن طريق المشاركة في أحداث تاريخية كبرى وتقديم رموز سياسية واقتصادية وروحية لها تاريخ لا يمكن تجاوزه عند رواية قصة مصر في التاريخ الحديث والمعاصر.

اكتسبت هذه القوى نفوذها عبر عقود طويلة من التشكل، ومرت بمحن كبرى وتجاوزتها كلها. ومع الوقت فقدت الثقة في بعضها بعضًا، رغم غلاف الحديث الدبلوماسي المجامل الذي يظهر أحيانا ويختفي أحيانا أخرى، فضلًا عن التحالفات الموسمية التي تفرضها مصالحها. ولذلك تشكلت قناعة راسخة لديها ولدى أتباعها أن دور حفظ الوطن وحمايته منوط بها وأنها رمانة الميزان عند الملمات، وأنها قد تنوب عن الوطن في أحيان كثيرة. وهذا يبرر أن يكون لكل منها ميزانية مستقلة لا تطلع عليها الدولة، أو بالأحرى لا تكون مكشوفة للقوى الأخرى. وتدافع كل منها عن استقلالها، أو بمعنى أدق عن عدم الشفافية المالية لديها بشراسة، ليس من باب نفعي، وإن كان هذا واردا، وإنما من باب أن هذا الأمر أحد مكونات ومقومات الاستقلال واستقرارها كقوى كبيرة.

يمتلك الجيش والإخوان والكنيسة خطابًا معلنًا لوطنية وحب مصر والنظرة للمستقبل. وهم صادقون في هذا الخطاب؛ لكن لكل منهم في الحقيقة تعريف يختلف عن الآخر. فالجيش تأسس في عهد محمد علي في محاولات التحديث والتأسيس الأولى للدولة المصرية الحديثة وإرسال البعثات لأوروبا، وبوصلته تتجه غربًا وشمالًا منذ ذلك الحين.

حينها، كان عصر أفول السلطنة العثمانية أو دولة الخلافة قد بدأ، بل إن هذا الجيش نفسه خاض حروبا ضدها، وكان على وشك أن يغزوها في عقر دارها. وينظر، ولو بدون وعي، إلى دور الدين في المجال العام كجزء من مشكلة اجتماعية تحتاج لحل، وأنه يمتلك هذا الحل أحيانا وقد يفرضه في لحظة ما حفاظا، حسب وجهة نظره، على المصلحة العامة وحماية للدولة من السقوط، كما يرى.

على الجانب الآخر، ترى جماعة الإخوان المسلمين في نفسها فصيلًا وطنيًا شارك في الكفاح ضد الاستعمار الانكليزي، وكانت سباقة في استشعار خطر إنشاء الكيان الصهيوني، وأرسلت المتطوعين لفلسطين مبكرًا. كما أنها جزء رئيسي من الثورات والحركات التي تشهدها مصر مثل ثورة يوليو إلى ثورة يناير. هذا إضافة إلى أنها تمثل حركة إحياء ديني لعقيدة أغلبية السكان في مصر. غير أن تعريفها للوطنية واستقلال الوطن يبدأ من حضور الدين في المجال العام وخطاب عودة الخلافة، بينما يمثل هذا الأمر جزءًا من المشكلة وليس الحل لدى الجيش، كما قلنا، ولدى الكنيسة، كما سنبيّن لاحقًا.

الكنيسة ترى أنها الممثل الأصيل لجذور الشعب المصري، حتى وإن أدى الفتح الإسلامي لمصر لتغيير عقيدة أغلب المصريين. وتعتقد أنلها مهمة مقدسة تتمثل في الحفاظ على العقيدة المسيحية ضد أية عقائد وافدة، وأن لديها مهمة لا تقل قداسة عن وقوفها ضد إلحاد المستعمرين الرومان، وتعتقد أن قيامها بهذا الدور يحمي الوطن. كما ترى أن الدول الكبرى في العالم الآن، أي دول المركز، مسيحية، وأن الميزان الحضاري ليس في يد العالم الإسلامي حاليا.

فرغم تاريخ التعايش المشترك مع المسلمين، إلا أنها غير ملزمة بقبول أية أسلمة للفضاء العام في البلاد حاليا، لأنه وإن كان يحمل بعض المزايا الحضارية قديما، فإنه لا يحمل أية قيمة حضارية مضافة حاليا، وقد يمثل تهديدًا عقائديًا للمسيحيين. وتفضل على ذلك علمنة هذا الفضاء وتبقى هي استثناءً دينيًا فيه. بمعنى آخر، ترى أن علمنة الفضاء العام تعطيها مساحة آمنة للحركة والحفاظ على ما تسميه شعبها حيث تتكفل هي برعاية شؤونه الدينية، مثل الزواج والطلاق والأحوال الشخصية.

هذه الرؤية لدى الكنيسة تصطدم بدورها مع الخطاب الإسلامي للإخوان في جوهره، وتقترب ولو جزئيا من قناعات الجيش، رغم الخلاف بين الكنيسة والجيش حول طريقة نفوذ الكنيسة على أتباعها، والذي يتخذ شكلًا سياسيًا، بالإضافة للخلاف حول أحقية إقامة علاقات مستقلة مع مسيحيي المهجر أو الدول الغربية. إذ لا ترى الكنيسة بأسًا في أن يكون لها ظهير شعبي خارجي يمكن أن يساعدها في انتزاع حقوقها في مصر إذا فكر أحد بالمساس بهذه الحقوق. ولا ترى في هذا الأمر تدخلًا أجنبيًا، لأنه عمل أهلي غير حكومي في جوهره وتأثيره ناعم وليس صلبا.

تشكل هذه القناعات، لدى الجيش والإخون والكنيسة، ثوابت غير مكتوبة. وإذا حاولت أية قيادة أو مجموعة أفراد من داخل أي من هذه المنظومات الثلاثة تغيير إحدى هذه القناعات بأية دوافع كانت، فإنها تواجَه فورًا من قبل الحرس القديم المسيطر والمخلص لهذه الأفكار. ويتم استخدام سياسة العصا والجزرة تجاه المخالفين، وتقابل هذه المحاولات بتوجس ثم بتهميش وينتهي الأمر بعزل الداعين لها بحجج مختلفة. ويتماهى في هذه المؤسسات ما هو مؤسسي خاص مع ما هو وطني عام، ومصلحة الكيان ذاته مع مصلحة الوطن والدين والناس.

مع مرور الوقت تسربت هذه القناعات السابقة لتشكل وجدان ملايين من المصريين يقفون في معسكرات ثلاثة. وقد تشكلت دوائر وطبقات اجتماعية وتشربت هذه القناعات. وليس صحيحًا أن هذه القناعات غابت في لحظة ما لكنها كانت متوارية وتظهر في أوقات الفتن والمصائب والاستقطابات الكبرى كالتي تشهدها مصر حاليًا.

ومن المثير للانتباه أن أي نظام في مصر لا يستطيع أن يستمر من دون أن يتحالف، بأي درجة، مع قوتين على الأقل من هذه القوى الثلاث. ولا يستطيع من جهة أولى أن يستهدف إحداها من دون ضوء أخضر من القوى الأخرى. فالكنيسة الأرثوذكسية ركن هام من أركان دعم النظام المصري الحاكم حاليًا. وحين واجه السادات الكنيسة في السبعينيات، كان يفسح المجال للإخوان والإسلاميين إلى أن انهار نظامه حين استعدى الإخوان والكنيسة في آن واحد، فاختلت المعادلة.

إن الحديث الحالي عن إصلاح جماعة الإخوان المسلمين وأخطائها، في الوقت الذي تتغول فيه الكنيسة والجيش هو حديث متناقض رغم ما يحمله من حقائق. فمثلًا، لم يفلح السادات في إعادة هيكلة الكنيسة أثناء نزاعه معها ومع البابا شنودة رغم سيطرته على مفاصل البلاد الأمنية حينها. ولم يفلح الدكتور محمد مرسي في هيكلة الجيش والشرطة حين كان رئيسًا يحكم البلاد رغم الحالة الثورية التي شهدتها البلاد لأول مرة منذ عقود طويلة.

وبالتالي، تنحصر سيناريوهات المستقبل في مصر في تكرار مثل هذه التجارب الفاشلة في محاولات إعادة الهيكلة أو التحالفات الموسمية بين هذه القوى وتلك ومحاولة كل منها هيكلة الأخرى. والأولى هنا هو مواجهة هذا الواقع الاجتماعي المتراكم عبر عدة عقود مواجهة شجاعة. والمواجهة هنا تقتضي أن يضع المفكرون وعلماء الاجتماع خطة لهيكلة كل هذه القوى بشكل متواز، وهذا لن يأتي من داخلها ولا من خلال من انشقوا عليها وإنما من خلال عملية مجتمعية شاملة تبدأ فكرية وتنتهي تطبيقية. لأن الإطار التبريري لدى الراغبين في الحفاظ على الوضع القائم لكل كيان من هذه الكيانات قوي ومتغلغل بشكل يتجاوز الشكل النفعي إلى قناعات فكرية ودينية راسخة يصعب اقتلاعها إلا بإحلال أفكار جديدة محلها أكثر إشراقًا وتجيب على الأسئلة الحيوية، من قبيل ماذا بعد الهيكلة؟ ومن يضمن عدم الفتك بنا؟ إلخ. وأن تدرك الدوائر الاجتماعية التي تدور في فلك كل من هذه القوى أن هذه الهيكلة من مصلحتها فعلا. ولذا كانت مبادئ ثورة يناير 2011 صدمة لكل هذه الكيانات، لأنها لأول مرة تتعامل مع مجموعة أحلام وأفكار شبابية واعدة للمستقبل تصيغ مبادئ جديدة وأسس جديدة للتعايش والانتماء. ولم تستطع أن تكبح جماح أفرادها اللاحقين بركب الحلم المتجسد في ميدان التحرير حتى جرت في النهر مياه أخرى لاحقا غيّرت من هذا الوضع.

الهيكلة المطلوبة هي جزء من دمقرطة البنى الأساسية للمجتمع المصري؛ أي جعل آليات الحكم الرشيد والمحاسبة أساسا في علاقة الأفراد بمختلف المؤسسات، وهذا يقتضي شفافية في نمط الإدارة والميزانية ووضوح للأهداف والرؤى. وهذه الهيكلة لا تتحقق بمجرد إزاحة القيادات، فيمكنك أن تحل أي طبقة قيادية محل أخرى ولكن لن يضمن هذا تغيير نمط التفكير.

كما أن كلفة اجتثاث هذه القوى بشكل عنيف باهظة جدا وأثبتت التجربة فشله. فهي ليست ورما خبيثا يمكن إزالته والحفاظ على باقي الجسد، وإنما تمثل أعضاءً في الجسد الوطني لا يمكن اقتلاعهم من دون إصابة الجسد بإصابات بالغة إن لم تود إلى قتله. وغياب الديمقراطية على المستوى الداخلي لهذه القوى سيكون عائقا أساسيا أمام إحلال ديمقراطية حقيقية في مصر، لأن البديل هو ديمقراطية فوقية تستنسخ آليات الديمقراطية من انتخابات وهياكل تشريعية من دون ثقافة ديمقراطية شعبية حقيقية تضمن الحفاظ على هذه المكتسبات.

(مصر)

 

المساهمون