مسامير

مسامير

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
كان يجب أن أموت، لأني فقدت إنسانيتي. تمكنوا من إذلالي وكسر إرادتي خلال يوم وليلة. ملأت المكان بصراخي الهستيري، وطلبت منهم الرحمة. جريمة التظاهر والهتاف للحرية، لم تعد تكفيهم. اعترفت لهم بجرائم لم أرتكبها بحياتي، وجرائم أخرى أنوي ارتكابها بالتعاون مع أبي وأمي وإخوتي الصغار. وطالبوني بالمزيد. ولم أعد قادراً على التحمّل أكثر. جروحي تقيحت وبدأت تنزّ، والسجان بات يضع على أنفه كمّامة، قبل فتح زنزانتي. تمزق جلد قدميّ إلى نتف، بعد أن تورّم، وانفجرت منه كريات الدم والقيح. لم أعد أستطيع الوقوف. وما عدت أستطيع المشي على أربع، أو الزحف على بطني، كما كنت أفعل من قبل. سحقوا ركبتيّ. علقوني على السلّم. كسروا ظهري بالكرسي القلّاب. وصار السجان يشحطني شحطاً إلى غرف التعذيب مثل كيس ممتلئ بالعظام.
لو أستطيع إيقاف قلبي عن العمل. لو أستطيع ثَقب رئتيّ أو دقّ عنقي بيدي، لكان ذلك أفضل طريقة للموت الذاتي الهادئ. لكن تلك الأعضاء الغبية تعمل من دون إرادة منا. وهي لا تشعر بالوجع أو الخجل أو الذلّ. لا يهمها إن كنتَ تعساً، متفائلاً أو متشائماً، بطلاً أو جباناً. لا يهمها إن كنت مسلوخاً أو محروق الوجه والأذنين بالكهرباء ولهب لِحام الأوكسيجين. وظيفتها الوحيدة أن تبقيك حياً حتى لو تعفّن لحمُك. والموت لا يأتيك، ولا تستطيع أن تذهب إليه متى شئت، لأن الحياة مقدّسة ومصانة بإرادة عليا، ولا يحقّ حتى لصاحبها الاعتداء عليها.

اقرأ أيضاً: سورية الأصل والمعنى

"والله لخليك تطلب الموت وما تلاقيه يا حقير"
قالها المحقّق وفعل. ولم أصدق ما قاله، حتى قادتني الوحشية إلى هذه الدرك من الإحباط والقنوط والاشتباه بإنسانيتي. من كان يظنّ أن ذلك المبتسم الصلب المفعم بالتفاؤل والحبّ والحياة، سيطلب الموت يوماً ولا يجده؟ لم يكن لدي سمٌ أو حبل أو أي أداة حادة. صادروا كلّ الأدوات التي تسهّل عليك الموت. لو كنت أملك مشبك شعر لما اكتفيت بحفر عيني، كما فعل "أوديب" الملك. صادروا ربطة عنقي وحذائي ونظارتي وحزامي وساعة يدي وخاتم زواجي، ووضعوني في زنزانة عارية ضيقة، لا أستطيع حتى تحطيم رأسي على جدرانها.
عبارة أخرى قالها المحقّق ولا أستطيع نسيانها:
"والله لخلي الذبّان الأزرق ما يعرف وينك يا كلب".
هذه العبارات لم تكن مخصصة لي فقط. قالها المحقّق لجميع الضحايا. وقبلت التحدي، رغم أني لم أكن أفهم ما هو المقصود بحكمة الذباب تلك. ولم يخطر على بالي أن يكون ثمة ذباب بهذا اللون. رأيت فراشات من كلّ الألوان: بيضاء، صفراء، بنفسجية، حمراء.. لم أسمع بالذبابة الزرقاء من قبل. علمت، في ما بعد، أنها ذبابة مختصة بالمقابر والجثث.
كان يجب أن أتحوّل إلى جثّة بأسرع وقت، وليفعل "الذبّان" الأزرق بي ما يشاء. تلمّست عنقي. لن أستطيع خنق نفسي بيدي، أو قطع وريدي بأسناني. يحتاج ذلك إلى وحشية لا أملكها. وهؤلاء ليسوا يهوداً كي تحاربهم بالإضراب عن الطعام. هؤلاء شركاؤك في الوطن، سوريون مثلك، لكنهم خبثاء أشرار بلا شرف أو ضمير. وهم أسوأ من الوحوش الضارية، ويملكون خيالاً أوسع من خيال إبليس. إذا لم تأكل قطعة الخبز اليابسة التي يرمونها إليك، يتضاعف عذابك. قد يجبرونك على ابتلاع ذبابة أو صرصور أو فأرة. غير مسموح لك أن تموت مرّة واحدة، وعندما تريد. حاولت كثيراً أن أفعل ذلك وفشلت.
ذات مرة سمعت حفيفاً يشبه الهمس، في آخر الليل. كنت وحيداً، لا رفيق لي ولا قريب، سوى الجدران اللزجة والعتمة. وكانت آلامي المبرّحة تمنعني من النوم، وكنت أودّ لو أنام إلى الأبد، قبل شحطي إلى التعذيب من جديد. ظننت في البداية أنه السجّان، يصيخ السمع ليطمئن إلى أنيني. لكنه حفيف خجول مرتبك. تحفزت وزحفت نحو الباب متردداً. كان الصوت قادماً من خلف الجدران. ورغم العتمة، تمكّنت من تحديد المكان، ورحت أتلمسه بأصابعي ولا أدري ماذا أفعل. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما شعرت بمسمار رفيع يخرج من ثقب في الجدار وينكز كفي. ثم يبرز بالتدريج كما لو أنه يقول لي اسحبني. تراجعت إلى الخلف، ولم أجرؤ على سحبه. تلمّست المكان ثانية، اختفى المسمار فجأة، وخرج من الثقب هواء حار. أحدٌ ما خلف الجدار كان ينفخ الهواء من أجلي. وبدأت أسمع من خلال الثقب أصواتاً وهسهسة، لم أكن أتوقع سماعها. كانت تقول أشياء غير مفهومة. الشيء الوحيد الذي فهمته هو أني لست وحيداً معزولاً عن هذا العالم، كما كنت أظنّ. لم يكن الثقب حديثاً. تبين أنه قديم قدم السجن. وتبين أن المكان مليء بالأرواح. برز المسمار مرة أخرى، وتقدّم في الثقب بسهولة، حتى سقط على الأرض. لا أدري من الذي أرسله إلي. لم يكن طويلاً، كما يجب لعبور جدار سميك. ثمة مسلة أخرى، أو شريط معدني، كان يدفعه كي يصل إليّ. مسمار حقيقي صلب مدبب ودافئ، لكنه لم يكن صالحاً أبداً للانتحار. قوّة جديدة دبت في جسدي وروحي. تأكدت يومها أن الجدار مهما كان سميكاً ومتيناً، لا بد أن يكون فيه ثقب أو خرم ما. وفهمت أنه يتوجب عليّ بدوري، أن أبدأ بثقب الجدار المقابل. وبدأت.
(كاتب سوري)

المساهمون