مساجلة في تعويم حل الدولتين .. ردا على ناصر القدوة

مساجلة في تعويم حل الدولتين .. ردا على ناصر القدوة

14 اغسطس 2020

غرافيتي على جدار الفصل العنصري في بيت لحم (18/1/2017/Getty)

+ الخط -

عرض السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ناصر القدوة، في مقالة له بعنوان "مرة أخرى.. الدولة الوطنية والثبات عليها هو الأساس"، رؤيته للبرنامج الفلسطيني، واختلافه "وفق وصفه" مع رؤية الجسم السياسي الفلسطيني، سيما مع رؤية قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية. ويمكن الاطلاع على المقالة في صحيفة الاتحاد الإلكترونية؛ وموقع مسارات؛ شبكة الأخبار الفلسطينية، وعدة مواقع إلكترونية تابعة لحركة فتح. وقد عمل القدوة، في المقالة، على إثبات اختلافه مع السلطة ،عبر جمل منمقة ومجتزأة، وعرض اختلافه مع دعاة تبني خيار الدولة الواحدة، من دون أن يكلف نفسه عناء البحث في تباينات هذا الطرح الذي حصره في طيفين وحيدين وأوحدين.

وبداية، يمكن الإشارة إلى أن ناصر القدوة، وربما حركة فتح والجسم السياسي الفلسطيني عموما، باتوا يستشعرون مدى ضعف تأثيرهم في الوسط الشعبي الفلسطيني، وأدركوا ضعف رؤيتهم وحلولهم، فضلاً عن تلمسّهم تنامي مشاعر اليأس والإحباط الشعبي من رؤيتهم واستراتيجيتهم التي راهنوا عليها طويلا، الأمر الذي دفع القدوة، ومن قبله رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، سلام فياض، إلى نشر مقالات تتعلق بهذا الموضوع، تدّعي الموضوعية والعقلانية السياسية. ولذا انطلقوا من نقد "ظاهري" للخط السياسي الفلسطيني الرسمي، لكنهم فعليا حاولوا إعادة تعويمه بحلة جديدة مزركشة، لا تمس بجوهره الساقط.

ناصر القدوة، وربما حركة فتح والجسم السياسي الفلسطيني عموما، باتوا يستشعرون مدى ضعف تأثيرهم في الوسط الشعبي الفلسطيني

نشر المقالة على بعض المواقع (ربما جميعها) المحسوبة على حركة فتح، على الرغم من قدرة القدوة على نشرها في وسيلة إعلامية عربية أو فلسطينية أو دولية، يعود إلى هوية الشريحة الشعبية أو السياسية التي يحاول الرجل الوصول إليها، والمتمثلة في جمهور "فتح" من منتسبيها أو المقرّبين منها. فيما المناخ الشعبي الفلسطيني بات معنيا بالبحث عن مخرج وطني حقيقي. ويمكن تفنيد ما تضمنته مقالة القدوة من أخطاء وتسويفات مضللة بالحد الأدنى، من خلال ثلاثة عناوين عريضة:

تلاعب تاريخي

يستهل ناصر القدوة مقالته بسردٍ تاريخيٍّ سريع نسبيا لتاريخ القضية الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين، ومتضمنا عبارات عاطفية لاستثارة مشاعر القارئ ومحاكاة أهدافه الوطنية بطريقة مضللة، تحجب حقيقة المشروع السياسي المتضمن في النص، وتوحي بجذرية موقف القدوة، وتمسكه بجميع الثوابت والحقوق الفلسطينية، وإصراره على استعادة جميع الحقوق، بما فيها حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته الوطنية على كامل التراب الفلسطيني، كما كانت تطرحه حركة فتح ومنظمة التحرير وسائر فصائل العمل الوطني الفلسطيني في ستينات القرن المنصرم. وهو ما لن تجد له أي إشارة تذكر لاحقاً، بل على العكس، سوف يجد القارئ، إن تحرّر من هيمنة البدايات العاطفية؛ أن كل ما يسعى القدوة إلى ترويجه هو إحياء حل الدولتين بعد إضافة بعض الرتوش التفصيلية والظاهرية.

ثم يقفز القدوة عن واحدة من أهم مراحل العمل الوطني الفلسطيني وبناء الكيانية الفلسطينية بتعمد واضح ومفضوح، عندما سيطرت فصائل العمل الوطني على منظمة التحرير، وإعلان الميثاق الوطني، وممارسة الكفاح المسلح، فبغض النظر عن جميع القراءات الناقدة لهذه المرحلة، إلا أنها وفق تقديرات جميع (أو غالبية) الباحثين والمحللين والسياسيين؛ ربما باستثناء القدوة؛ كانت العامل الرئيسي والمركزي في صناعة الكيانية والهوية الفلسطينية، وفي تجسيد الرواية الفلسطينية سياسيا، وفي فرض منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، إقليميا ودوليا.

نقد القدوة "ظاهري" للخط السياسي الفلسطيني الرسمي، لكنه فعليا محاولة لإعادة تعويمه بحلة جديدة مزركشة

كما لم يكتف القدوة بتجاهل هذه المرحلة، بل ذهب إلى نسبة إنجازاتها السياسية والمعنوية والثقافية للمرحلة التي تلتها، والتي أثارت خلافات عديدة حولها تاريخيا وحاضراً، والمتمثلة في تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وما تبعها، بقوله: "بدأ العمل على استعادة الكيانية الفلسطينية على الأرض، أولاً في العام 1974من خلال برنامج النقاط العشر أو برنامج إنشاء السلطة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره من بلادنا، ولاحقاً في العام 1988 من خلال إعلان الاستقلال من قبل المجلس الوطني الفلسطيني ممارسة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير". أي لم نعد أمام انتقائية تاريخية تخدم حساباته ورؤيته السياسية القاصرة فقط، بل هناك تحريف واضح أيضا. حيث يعلم القدوة، كما نعلم جميعاً، أن برنامج النقاط العشر كان أول مظاهر تصدّع الكيانية والبنية السياسية الفلسطينية، التي بنيت على الميثاق الوطني الأساسي، فهل نسي جبهة الرفض، وهل تناسى مئات الكتب والمقالات والتحليلات التي تعارض هذا الانحراف. بل ويتناسى أن برنامج النقاط العشر كان بداية تداعي تمثيل منظمة التحرير جميع الفئات والشرائح الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها، وهو ما مهد الطريق إلى الانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني الشعبي، قبل الفصائلي، فضلاً عن دوره في تمهيد الساحة للخط التنازلي والاستسلامي.

ومن ثم يستمر القدوة في تلاعبه التاريخي الموجه، بقوله "وبالفعل، استجابت أغلبية دول العالم للإعلان، واعترفت بدولة فلسطين على حدود 1967 على الرغم من كونها تحت الاحتلال". وقد يخيل، وفق هذه العبارة، أن عددا قليلا من الدول لم تعترف بالإعلان، ويتم تجسيده ميدانيا، وهو ما يتنافى مع المنطق والحقائق التاريخية، فقد اعترف بالإعلان في حينه قرابة نصف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وغالبيتهم اكتفوا بهذا الاعتراف من دون أي خطوة سياسية أو إعلامية موازية، حتى على المستوى الدبلوماسي أو حتى الشكلي. كما لم نشهد من هذه الدول أو غالبيتها موقفا ناجزا وحاسما تجاه الدولة الصهيونية، كمقاطعتها دبلوماسيا وثقافيا ورياضيا، إذ استمرت كثير من هذه الدول في تعاملها شبه الطبيعي مع الدولة الصهيونية، سلطة أمر واقع على فلسطين، بغض النظر عن شرعيتها، وتم تجميد غالبية الخطوات التي تتبع الاعتراف بدولة فلسطين، بذريعة عدم اكتمال التسوية السياسية المعترف بها دولياً.

أثبتت الاستطلاعات، بالحد الأدنى، انهيار حل الدولتين وخيار الدولتين

ويتابع القدوة عملية تشويه الوعي التاريخي، وهذه المرة بشأن ما تبع توقيع اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل في 1993) بقوله" لم يستمر العمل الايجابي للتنفيذ طويلاً وتم اغتيال اسحق رابين، وبعد ذلك تم اغتيال ياسر عرفات، وقام اليمين الإسرائيلي المتطرّف بعكس نتائج أوسلو وتسريع الاستعمار الاستيطاني، ونجح في خلق حالة تسيطر فيها إسرائيل على كافة مناحي الحياة الفلسطينية ولا علاقة لها بالحكم الذاتي، إضافة إلى استمرارها طويلاً بعد السنوات الخمس المتفق عليها". إذاً يوحي القدوة بأن التفاوض ما بعد "أوسلو" كان ماضيا في مسار إحقاق الحق الفلسطيني بخطوات متسارعة، إلا أن إجراءات اليمين الصهيوني عرقلته!. وهو ما يهمل الزمن والوقت والواقع، فمن ناحية عملية لم تحظ السلطة الوطنية بأي مظهر سلطوي حقيقي منذ يومها الأول، اقتصاديا وخدميا وماليا، كما لم تملك القدرة على بسط سلطتها السياسية على الفلسطينيين المقيمين في أراضيها أو المفترض عودتهم. بل حافظت الدولة الصهيونية على سيطرتها العملية على جميع القضايا والمسائل، بما فيها التحكّم بحركة الفلسطينيين من مناطق السلطة وإليها وفيما بينها، وتمددت المستوطنات القائمة وأنشئت أخرى جديدة. وجعلت من السلطة منذ يومها الأول حاجزاً أمنيا وإداريا يحول بين الدولة الصهيونية والفلسطينيين، حماية للأولى وتحريراً لها من مسؤولياتها المباشرة. وعليه، فشل اتفاق أوسلو منذ البداية، وها نحن نعيش ثمن رفض القيادة الفلسطينية الاعتراف بذلك.

ثم يحرف القدوة استطلاعات الرأي، فيقول "يدّعي بعض هؤلاء أن موقف المواطنين الفلسطينيين قد تغير، خاصة الشباب منهم، من موقف مؤيد لحل الدولتين، لموقف مؤيد للدولة الواحدة. والخدعة هنا مزدوجة، أولاً الخلط بين التسوية السياسية والتفاوض إلى الأبد من جهة، وبين الهوية الوطنية والدولة والوطنية من جانب آخر. الكثيرون فقدوا الثقة بما يسمى التسوية السياسية ولكنهم حتماً لم يغيروا موقفهم بشأن وجود دولة فلسطين والحقوق الوطنية الفلسطينية، ثانياً الدولة الواحدة بدون تعريف أو توضيح، يظهر الحديث وكأنه عن دولة ديمقراطية بحقوق متساوية للجميع وهو هدف أظنه أخلاقياً وحتى نبيلاً". يثبت القدوة مرة أخرى قدرته البارعة على التلاعب بالحقائق، وكيفية ترتيبها بما يخدم وجهة نظره. 

نعم لا تظهر غالبية استطلاعات الرأي تزايداً كبيرا في أعداد الفلسطينيين المؤيدين لخيار الدولة الواحدة، وبالتحديد لخيار الدولة الواحدة ثنائية القومية، وبتحديد أكبر لدولة إسرائيل ثنائية القومية على كامل التراب الوطني الفلسطيني. بينما أثبتت الاستطلاعات التي عاينتها كاتب هذه السطور، بالحد الأدنى، انهيار حل الدولتين وخيار الدولتين.

 يتناسى القدوة أن "فتح" هي من تلاعب بالبرنامج الوطني الفلسطيني، عندما فرضت برنامج النقاط العشر

تظهر الاستطلاعات أن مؤيدي حل الدولتين وحل الدولة الواحدة ثنائية القومية ومؤيدي كونفدرالية مع الأردن متقاربون جداً في النسب، وتتراوح نسبة تأييد كل من هذه الخيارات بحدود 9% إلى 14% من العينة المستطلعة آراؤهم فقط، في حين تبلغ نسبة مؤيدي استعادة كامل فلسطين التاريخية للفلسطينيين أكثر من 64% منهم، وهو بالمناسبة من أشكال خيار دولة فلسطين الواحدة. (الأرقام مأخوذة من استطلاع المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي في الضفة). أي يظهر الاستطلاع نفور الغالبية الفلسطينية من حل الدولتين، والتي تصل إلى حدود 85% في الضفة و70% في غزة، وإن اعتبرنا أن خيار الكونفدرالية مع الأردن يعبر، بشكل أو بآخر، عن خيار الدولتين تصبح نسبة رافضي هذا الخيار قرابة ال 75% في الضفة 65% في غزة، هل هناك استطلاع أوضح من ذلك؟ أما عن برنامج الدولة الواحدة، فواضح أن الاستطلاع يبرز محدودية مؤيدي هذا الخيار في حالة واحدة، إن لم تكن الدولة الواحدة فلسطينية بالضرورة.

ومنها ننطلق نحو التفنيد الأخير في هذه الفقرة التاريخية، عبر تفنيد عبارة ذات مدلولات مزدوجة، سياسية وتاريخية. لذا قد تكون خير ختام لهذه الفقرة ومقدمة حسنة للفقرة التالية، والمتمثلة بقوله "لا يجوز التلاعب بالبرنامج الوطني أو تقويضه بمقولات وحجج أخرى، وإن تغييره له طريقته ويشترط إجماعاً وطنياً أو ما يقاربه". وهنا يبدو أن ناصر القدوة يتناسى أن حركته السياسية؛ فتح؛ هي من تلاعب بالبرنامج الوطني الفلسطيني، عندما فرضت برنامج النقاط العشر، من دون أي اكتراث برأي الشعب الفلسطيني، مستندة إلى هيمنتها التمثيلية داخل دوائر منظمة التحرير ومؤسساته، ومتجاهله أنها مؤسسات ودوائر غير منتخبة، شكلت وفق نظام محاصصة فصائلية ما زال ساري المفعول. وبالتالي، لم يُدعم تغيير البرنامج الوطني الفلسطيني المذكور بشرعية شعبية واضحة عبر الاستفتاء أو أي شكل ديمقراطي آخر. ولم يحظ بإجماع بين الفصائل والقوى السياسية الفاعلة داخل المنظمة وخارجها، بل أدى إلى تشكيل جبهة الرفض، ردّا ورفضا واضحا وحاسما عليه. ثم من قال إن المطلوب اليوم هو تغيير البرنامج الوطني، من دون أن يحظى التغيير بشرعية شعبية ووطنية. ومن أين جاء القدوة بهذا الادعاء المضلل، إذ تدعو غالبية الأصوات الداعية إلى تغيير البرنامج الوطني الفلسطيني، في الوقت نفسه، إلى إصلاح البيت الداخلي الفلسطيني، وإعادة تشييده على أسس تمثيلية ديمقراطية، تشمل جميع مكونات الشعب الفلسطيني وتجمعاته داخل الوطن وخارجه، مقدمة ضرورية لإقرار برنامج وطني يمثل الفلسطينيين جميعا، أو على الأقل يمثل غالبيتهم العظمى.

 بين خيار الدولتين وحل الدولتين

يفند هذا العنوان المزاعم التغيرية للقدوة، وخطابه الناقد للسلطة الفلسطينية ظاهريا والداعم والمساند لها باطنيا، إذ ينتقد القدوة منهجية السلطة وفق عبارات منمقة وحذرة، توحي بالحزم والوضوح والصرامة، كقوله "لعل واحداً من أكبر أخطاء الحركة الوطنية الفلسطينية ما بعد أوسلو وخلال فترة وجود السلطة هو ما يبدو أنه قبول بفكرة أن التسوية السياسية هي التي تعطي الشعب الفلسطيني دولة، بل ربما تكون إسرائيل هي من تمنح الشعب الفلسطيني هذه الدولة". إذا يدّعي القدوة إدراكه خطأ القيادة والجسم السياسي الفلسطيني جيداً، بل ويدعو إلى إصلاحه فوراً، متمثلا في الخيار التفاوضي فقط. ويُتبعه بشرح مستفيض عن طبيعة العدو التي تحول دون التوصل إلى تفاهم سياسي معه، بقوله "وعلينا أن نفهم أن هذا الاستعمار الاستيطاني هو نقيض الوجود الفلسطيني، ويهدف لإحلال المستعمرين الإسرائيليين مكان شعبنا، أي أن الأمر ببساطة بالنسبة لنا هو حياة أو موت".

يرفض القدوة خيار الدولة الواحدة بجميع أشكالها وأنواعها وطروحاتها، حتى لو كانت دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية

ربما يود منا القدوة أن نحتفل بنجاحه في استخلاص هذه الدروس العظيمة بعد قرابة العشرين عاما، معتقداً بقدرته على سحبنا معه نحو خياره البديل، والذي يصوره كأنه خيار ثوري وتغيير جذري. ما هي طبيعة التغيير وأين بالضبط؟ عمليا، يرفض القدوة خيار الدولة الواحدة بجميع أشكالها وأنواعها وطروحاتها، حتى لو كانت دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية، التي كانت جزءا من الخطاب الرسمي الفلسطيني في ستينات وبداية سبعينات القرن المنصرم، سيما في خطابي الفصيلين الأكبر، حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويتمسّك بخيار الدولتين، لكنه يميز بين خيار الدولتين وحل الدولتين، على اعتبار الحل نتاج عملية تفاوضية. أما الخيار فهي نتاج عملية غير تفاوضية نضالية، من دون أن يحدد ماهية النضال وكيفيته، أو الأسس التي قام عليها هذا التمييز السخيف.

على أي أساس تم اعتبار كلمة حل تجسيداً لعملية تفاوضية، هل هو أساس لغوي سياسي أم ميول شخصية؟ هل عبارة الحل العسكري وفق قاموس القدوة تعبر عن تفاوض عسكري مثلا؟ إذا لم يكتف القدوة بإعادة صياغة التاريخ وتحريفه كما يحلو له فقط، بل يصير على قولبة اللغة وفق أهوائه وغاياته الدفينة. ثم، وبغض النظر عن طول المدة التي تطلبها القدوة لاستنتاج عبثية المسار التفاوضي، ما هو مسار القدوة البديل؟ هل يدعو مثلا إلى الكفاح المسلح المنضبط جغرافيا، من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المعترف بها دوليا وفق قرار التقسيم، أو وفق حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، أم يتبنى النضال السلمي والاحتجاج الشعبي وسيلةً وحيدة لذلك، أم يعول على انتصار المجتمع الدولي لهذا الخيار وفرضه أمرا واقعا؟.

لم يقدّم ناصر القدوة أي ملمح لطبيعة مساره البديل، وإن دار كثيراً في فلك القانون الدولي، مشيداً بأهميته حينا، ومقللا من فاعليته بحذر وتوجس في بعض الحالات، ما يدفع إلى الاعتقاد بتعويله على المجتمع الدولي والقانوني الدولي، من دون الجزم بهذا الاستنتاج، كقوله "بداية يجب عدم التقليل من أهمية القانون الدولي والموقف الدولي"، ومن ثم "التمسك بدولة فلسطين القائمة، وإن كانت تحت الاحتلال... هذا بوجود أو بدون تسوية تفاوضية، كما هو الحال في هذه الحقبة الزمنية". لا يقطع القدوة في الجملة الأخيرة مع المسار التفاوضي كليا، بقدر ما يوحي بالضغط على الدولة الصهيونية، لإرغامها على استئناف العملية التفاوضية ولو على خجل، وهو ما يتطابق مع منظور الرئيس محمود عباس وطرحه، والذي يعبر دائما عن تمسّكه بحل الدولتين، وتلويحه بالنضال السلمي والعمل دوليا من أجل فرضه، من دون أن يمارس أيا منهما، أو على الأقل من دون أن يمارس الحد الأدنى منهما، وبالطبع من دون أن يحصل على أي نتيجةٍ تذكر.

رجالات السلطة الفلسطينية و"فتح" من قيادات الصف الأول ما زالوا متعلقين بأوهام حل الدولتين، أو ربما بالمصالح الفئوية التي أفرزها

إذا، يدّعي ناصر القدوة رفضه الخيار التفاوضي من دون أن يقطع معه كليا، ويعوّل بشكل شبه واضح على المجتمع الدولي والقانون الدولي، من أجل فرض خيار الدولتين حسب تعبيره. لكنه لا يجيب عن الأسباب التي منعت المجتمع الدولي والمنظمات الدولية عن إجبار الدولة الصهيونية على الانسحاب إلى حدود 67، أو على تطبيق قرار التقسيم، على الرغم من تنازلات الجسم السياسي والقيادة الفلسطينية المهولة بوصفه لها في الفقرة عن "صفقة القرن" قائلا "يأتي هذا الهدف الإجرامي على الرغم من التنازلات الكبيرة والمتتالية التي قدّمها الجانب الفلسطيني، وهو هدف يلغي في الحقيقة التسوية السلمية أو التفاوضية ويحاول الاستيلاء على كل شيء بدلاً من التقسيم إلى دولتين".  فهل مرد تقصير المجتمع الدولي والمنظمات الأممية تجاه قضيتنا هو عجزها أم هو غياب الإرادة الدولية، أم هو نتاج تقصير القيادة الفلسطينية؟ أسئلة تجاهلها القدوة.

كما يتضمن الجزء غير المعرض سابقا من جملة القدوة هذه الفكرة "التمسك بالأرض والدفاع عنها ضد المستعمرات والمستعمرين إضافة إلى المطالبة بأراضي لاجئي فلسطين، والتي تبلغ خمسة ملايين ونصف المليون دونم وفق وثائق لجنة التوفيق للأمم المتحدة". من البديهي القول عنها إنها استراتيجية الحد الأدنى التي يمارسها الشعب الفلسطيني وحيداً اليوم، بأطيافه كافة داخل فلسطين وخارجها، في أراضي ال 48 وال 67، ولنا مئات الشواهد على ذلك، من حيفا وغزة والقدس والضفة، ومن تجمعات اللاجئين خارج فلسطين أيضا، نظراً إلى استسلام الجسم الرسمي الفلسطيني. إذا لا يقدم القدوة أي فكرة جديدة أو إضافية عن التي ترددها السلطة والمنظمة ممثلة بأعلى رأسها الهرمي، بل يعمل على تجميل خطابها وإكسائه لباسا نضاليا فارغا من أي مضمون حقيقي، كي يحاول إعادة بسط سيطرة حركة فتح والسلطة والمنظمة على نبض الشارع الفلسطيني، وعلى مثقفيه ونخبه، بعدما تصاعدت الأصوات الغاضبة والساعية إلى إحداث تغيير وطني ثوري بالبنية والمنظومة المسيطرة اليوم.

حل الدولة الواحدة بين التبسيط وجذرية الطرح

هنا أيضا لا تخلو كتابة ناصر القدوة من حرف الحقائق وإخفائها وتسويفها، كقوله "هناك فئة فلسطينية لها حجمها ومنطقها تقول بهدف تحرير كل فلسطين، إزالة الكيان الصهيوني وبناء كيان ديمقراطي حقيقي بدلاً منه. وبالرغم من العدالة التي ينطوي عليها هذا الطرح إلا أن إمكانية تحقيقه تبدو عسيرة للغاية ناهيك عما يسببه ذلك من خسائر فادحة على مستوى المجتمع الدولي ومواقف الدول الفاعلة". يتهرّب القدوة من نقاش هذا الطرح، تحت ذرائع عامة غير محدّدة، فهو برأيه طرح متعسر، من دون إبراز مكامن تعسّره الحقيقية، ربما خوفا من الإقرار بمكمن التعثر الأساسي، المتمثل في بنية السلطة والجسم السياسي الفلسطيني وفصائله، سيما "فتح"، فهو طرح يتطلب تغييراً بنيويا فلسطينيا يتناقض مع مصالح القيادات الضيقة ومن دار في فلكهم. أما دوليا فهو يخشى من أن يتسبب هذا الطرح في خسائر فادحة فيها، فربما يقصد خسارة الدعم الأميركي والأوروبي، الرسمي تحديداً، وربما خسارة قرار التقسيم المجحف بحقوقنا الفلسطينية المشروعة.

الشعب الفلسطيني حسم قراره الأول مبدئيا، رفض حل أو خيار أو أي توصيف آخر يعبر عن إقامة دولتين لشعبين، ويتنكّر لأي من حقوقنا الوطنية الفردية والجماعية

ويتعمد اغفال مكاسب هذا الطرح العديدة، كاستعادة رواية الفلسطينيين الشرعية ووحدة الشعب وقضيتة وأرضه، وتفعيل القرارات الدولية التي تؤكد على حقوقه كاملة، ومؤازرة القوى التحرّرية والتقدمية العالمية لنا. لا يجري القدوة هذه المقارنة ولو سريعا بين مكاسب الطرح وخسائره، ولا يعمد إلى مقارنة المكاسب والخسائر في كلا الطرحين، أي بين طرح تحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية واحدة من ناحية، وخيار أو حل الدولتين الذي يدعو إليه مجدداً.

يستعيد ناصر القدوة دعوة صديقه سلام فياض، التي نشرها في مقال في صحيفة الشرق الأوسط، قائلاً "في كل الأحوال، يبدو لي إنه من المنطق حتى بالنسبة لأصحاب هذا الطرح الانضمام لهدف الاستقلال الوطني في دولة فلسطين على حدود 1967 وبعدها يخلق الله ما لا تعلمون". والمقصود بهذا الطرح تحرير فلسطين كّل فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية، وكأن الخلاف بين الطرحين بسيط جداً وهامشي، لا يتجاوز حدود الخلاف على تعبيرات شكلية. في كل الأحوال، لابد من الإجابة على فكرة القدوة، بغض النظر عن الأسباب التي دفعته لها، فمن ناحية سياسية وقانونية يمثل تبني خيار أو حل الدولتين إقرارنا بحق دولة إسرائيل في الوجود على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، وهو ما يتناقض كليا مع خيار الدولة الواحدة. كما يفصل خيار الدولتين بين مكونات الشعب الفلسطيني وفق أماكن وجودهم الحالية والتاريخية، بين فلسطينيي دولة إسرائيل وفلسطينيي دولة فلسطين، وهو ما يتبعه فصل بآليات النضال والخطاب السياسي والأهداف والغايات. وبالتالي، هو خيار يكرس الانقسام الفلسطيني، ويفقد الشعب الفلسطيني ورقته الأقوى والأهم المتمثلة بتضامنه وتآزره ووحدته خلف الغاية والهدف نفسيهما، في حين يوحد خيار الدولة الواحدة الشعب والأرض والقضية، ويبني استراتيجية نضالية مرنة وشاملة تتيح لجميع الفلسطينيين الانخراط فيها، كل حسب موقعه وظرفه وقدرته، من دون أي تمييز سياسي أو جغرافي فيما بيننا، من أجل تحقيق الأهداف والوقائع نفسها. فضلا عن اختلاف اللغة والمنطلقات الإعلامية والثقافية والتحريضية، واختلاف المرتكزات القانونية والتاريخية.

 تحريف وتبسيط بحق طروحات الدولة الواحدة، وادعاء أنه حل استسلامي أحيانا، وصهيوني أو إسرائيلي أحيانا أخرى

 لم يكتف ناصر القدوة بهذا القدر من التحريف والتبسيط بحق طروحات الدولة الواحدة، بل يتابع تضليله مدعيا أنه حل استسلامي أحيانا، وصهيوني أو إسرائيلي أحيانا أخرى، من دون إبراز ذلك، وإبراز أيٍّ من طروحات الدولة الواحدة هي ما ينطبق عليها هذا الوصف. وتنتهي مقالة القدوة إلى حيث يريد، عبر تهميش جميع طروحات الدولة الواحدة ووسمها بالهلامية والضبابية والغموض، يكتب "وبعض أصدقائنا يقولون الدولة الواحدة هي الحل دون أي تعريف ودون تقديم أية حقوق محددة وحقيقية للشعب الفلسطيني". لا نعلم من هم أصدقاء القدوة الذين يتحدث عنهم، فقد يقصد صائب عريقات أو سلام فياض أو أي من أصدقائه ورفاقه الحقيقيين، داخل الجسم السياسي الفلسطيني وداخل حركة فتح، وهو ما يصعب تفنيده أو نقاشه، على اعتباره يناقش أصحاب مبادرة مجهولة لم يطلعونا عليها، لذا قد يكون محقا في نقدهم وقد يكون مخطئا كذلك.

إن كان يقصد جميع طروحات الدولة الواحدة فتلك طامة كبرى، وهو للأسف ما يوحي به النص في كثير من فقراته، فهذا تضليل وافتراء منبوذ أولا، وتعبير عن جهل أو تجاهل ثانيا، على الرغم من استبعاد جهل شخصية سياسية بمكانة القدوة تولت مناصب ومواقع قيادية كالتي شغلها ويشغلها، فمن غير المعقول عدم إطلاعه على أهم المبادرات والأطروحات الفلسطينية المتعلقة بهذا الخيار، سيما التي رافقها صخب إعلامي. كوثيقة "الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة ديمقراطية علمانية واحدة"، التي وقع عليها الأمين العام للجبهة الشعبية، أحمد سعدات، من داخل سجنه، ومن ثم سحب توقيعه بعد ضغوط مارسها عليه رفاقه في الجبهة، ترافقت مع حملة تشهير وتكذيب كبيرة مارسها بعض قيادات الجبهة الشعبية بحق المفكر والمناضل العربي الفلسطيني، سلامة كيلة، والتي كذبها وفندها أحمد سعدات بعد وفاة سلامة بأيام، في مقابلة معه نشرتها صحيفة المصري اليوم المصرية.

ليس المقصود بالتأشير هنا إلى وثيقة الحركة الشعبية التقليل من باقي طروحات الدولة الواحدة، بقدر ما يعني الكاتب أمران من طرحها مثالا على تحايل القدوة؛ يتمثل الأول في شبه استحالة عدم معرفة القدوة بهذه الوثيقة، لسياقاتها الإعلامية من توقيع أحمد سعدات؛ سحب توقيعه، تهجم وتشهير بعض قيادات الجبهة على سلامة كيلة، مقابلة سعدات الصحفية التي أقر فيها بالتوقيع. فكيف لناصر القدوة رجل الساسة والسياسية إغفال مقابلة سعدات، الأمين العام لأحد فصائل منظمة التحرير، وأحد قادة الحركة الأسيرة البارزين، مهما كانت انشغالاته ومواقفه الشخصية من الجبهة الشعبية، ومهما كان حجم الجبهة ومكانتها اليوم ميدانيا. وعليه، كان على القدوة نقاش هذا الطرح الواضح والمعلن، بدلاً من التهرب نحو وسم جميع طروحات الدولة الواحدة بالضبابية وعدم الوضوح.

وثيقة الحركة الشعبية تنطلق من الأسس الوطنية الجامعة الأساسية، مع محاولة تطوير الرؤية الفلسطينية التاريخية وفق قواعد وطنية تحررية أولاً، وتقدمية ثانيا، وإنسانية ثالثا، وديمقراطية رابعا

السبب الثاني لطرح وثيقة الحركة الشعبية هنا مثالا اقتناع كاتب هذه المقالة بها واطلاعه الكامل عليها، من دون التقليل منت حق باقي مجموعات الدولة الواحدة بالرد على مادة القدوة وفق رؤيتهم الخاصة. وعليه فوثيقة الحركة الشعبية تنطلق من الأسس الوطنية الجامعة الأساسية، مع محاولة تطوير الرؤية الفلسطينية التاريخية وفق قواعد وطنية تحررية أولاً، وتقدمية ثانيا، وإنسانية ثالثا، وديمقراطية رابعا. فهي تستمد مرجعيتها التحررية وأسسها الوطنية من الميثاق الوطني الأساسي. كما تبني طرحها التقدّمي والإنساني انطلاقا من غالبية البرامج الفصائلية المعلنة في ستينات القرن المنصرم وسبعيناته، وأهمها برنامجي حركة فتح والجبعة الشعبية. وتستمد قيمها الديمقراطية من حصيلة التطور البشري الاجتماعي والسياسي. لتصوغ وثيقتها القائمة على تحرير كّل فلسطين، عبر تفكيك الدولة والمؤسسات الصهيونية وإقامة دولة فلسطين الواحدة العلمانية الديمقراطية، لمواطنيها الفلسطينيين المقيمين فيها اليوم، واللاجئين بعد ضمان عودتهم إليها، ولسكان فلسطين الحاليين من أتباع الديانة اليهودية المتحرّرين من الفكر العنصري والإجرامي الصهيوني.

يبدو من مقالة سلام فياض في "الشرق الأوسط"، ومن مقالة ناصر القدوة المنشورة في مواقع فتحاوية أو محسوبة على حركة فتح، أن رجالات السلطة الفلسطينية و"فتح" من قيادات الصف الأول ما زالوا متعلقين بأوهام حل الدولتين، أو ربما بالمصالح الفئوية التي أفرزها حل الدولتين. لذا نراهم تائهين ومربكين ومتخبطين، وهم يبحثون عن أي وسيلة أو طريقة ينعشون فيها خيارهم أو حلهم الساقط ميدانيا بفعل الدولة الصهيونية والمجتمع الدولي اللاهثين خلفهم، والساقط أخلاقيا وسياسيا بفعل تخليه عن الجزء الأكبر من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبحكم نتائجه الكارثية والتقسيمية على الشعب والقضية والأرض الفلسطينية. في حين يبدو أن الشعب الفلسطيني قد حسم قراره الأول مبدئيا، المتمثل برفض حل أو خيار أو أي توصيف آخر يعبر عن إقامة دولتين لشعبين، ويتنكّر لأي من حقوقنا الوطنية الفردية والجماعية، فهل يفهمون ذلك قريبا.