مريم توزاني: "أجد أنني أنجز أفلاما عن أشياء تمسّني"

مريم توزاني: "أجد أنني أنجز أفلاما عن أشياء تمسّني"

18 ديسمبر 2019
مريم توزاني: حين أصنع فيلماً، أعيش اللحظة (مصطفى يالسين/الأناضول)
+ الخط -

مع "آدم"، تقدّم المخرجة المغربية مريم توزاني فيلمها الروائي الطويل الأول، المُشارك في قسم "نظرة ما"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي. لاحقا، عُرض في مهرجانات عربية عديدة.

يتناول الفيلم قضيّة الأم العزباء في المجتمع المغربي، من خلال علاقة تنشأ بين شابّة حامل (نسرين الراضي) وأرملة (لبنى أزابال)، تستقبلها في منزلها وتأويها، وتمنحها فرصة العمل في متجرها الصغير. بهذا، تُصوّر توزاني عالم النساء، اللواتي يضطررن للعيش بعيدا عن أعين الناس.

عن إشكاليات توطيف قصّة حقيقية عاشتها المخرجة، والقوانين المجحفة في حقّ المرأة في المغرب، وتفاصيل أخرى، أجرت "العربي الجديد" حوارا مع مريم توزاني:

كيف تعلّمتِ صناعة الأفلام؟
تعلّمتُ كثيراً مع نبيل عيّوش. قبل التعرّف إليه، أنجزتُ وثائقيات وأفلاماً قصيرة. لكن تجربتي تأتي من عملي معه. "رازيا" كتبناه معاً، ومثّلتُ الدور الرئيسي فيه، رغم أنّه لم يكن لي في البدء. أما "الزين اللي فيك"، فكنتُ حاضرة طول فترة الكتابة، ثم في الـ"بلاتوه"، فرأيتُ كيف يعمل، وكيف يدير الممثّلين. امتصصتُ أشياء كثيرة خلال العمل الميداني، وراكمتُ الكثير. كانت تجربة غنيّة جداً. هكذا تكوّنت حقيبتي السينمائية.

منذ فيلمِكِ الأول، "آدم"، وصلتِ إلى "كانّ".
هناك ما يتجاوزُكَ أحياناً. هذا ما أحسستُ به، عند اختيار الفيلم للمشاركة في "كانّ" (2019 ـ المحرّر). دهمتني رغبة في سرد حكاية، وكنتُ معنيّة بتجسيدها. حرصتُ على سردها بالنحو الأكثر صدقاً. أما الاعتراف بكَ كسينمائي، في منبر مثل "كانّ"، فهذه لحظات جميلة تعيشها. هذا شجّعني أيضاً على مواصلة عملي كسينمائية. عندما تُنجز فيلماً أول، لا تعرف كثيراً إلى أين تتوجّه، حتى وإنْ كانت الأشياء واضحة جداً في رأسك. عادة، لا أطرح على نفسي أسئلة كثيرة عن مآل الأمور. قد يبدو الأمر "كليشيه". لكن، حين أصنع فيلماً أعيشُ اللحظة، من دون أن أشغل بالي بما سيحلّ بالفيلم، وبالنحو الذي سيستقبله النقّاد. لذلك، كان اختيار الفيلم في "كانّ" أمراً استثنائياً.

ربما لا تطرحين على نفسك أسئلة عديدة، لكنّ الفيلم مشبع بالأسئلة.
هذا صحيح. الأسئلة المطروحة في الفيلم ملحّة في المغرب. نعيش في بلدٍ، طرح الأسئلة فيه يساعد على التقدّم. لكن، يجب أنْ نطرح الأسئلة الملائمة، كما أنّه يجب ألا نخاف من طرحها. كان بودّي أنْ أفتح نقاشاً بناءً. هذا يأتي من اقتناعي بأنّ النقاش يبني المجتمع، فعلاً. في المغرب، اعتدنا أنْ يخرج النقاش عن مساره، ليتحوّل إلى شيء آخر. غالباً، يتحوّل النقاش في فيلمٍ إلى مسائل فضائحية سطحية. أشياء لا علاقة لها بمضمون النقاش. للأسف، هذا سبيلنا للهرب من الواقع، ولحماية أنفسنا منه في المجتمع الذي نعيش فيه.

مع ذلك، أؤمن بقدرة فيلمي على توليد نقاش حقيقي، عن ظروف عيش بعض النساء في المجتمع المغربي، خصوصاً معاناة الأمهات العازبات، وكذلك مصير أطفالهنّ الذين باتوا على هامش المجتمع. هذا أمر مأسوي، لكنّ الحديث عنه نادر. هذا شيء يثير سخطي. في المغرب، نمنح الانطباع للآخرين بأن وضع المرأة أفضل مما هو عليه في بلدان عربية أخرى، لكن هذه ليست إلا صورة، فالحقيقة تقول شيئاً آخر. نعيش وهماً يجعلنا نعتقد أننا في حال أفضل. هناك وهم الحداثة. ذلك أننا، عندما ننبش، نكتشف نسخة مختلفة عمّا يُروَّج له، خصوصاً في مجال القوانين البالية. نقاش طويل دار مثلاً حول موضوع الإجهاض، لكنّ الأمور لم تتطوّر كثيراً. يومياً، هناك 800 فتاة مغربية يُجهضن خارج الأطر القانونية، وتتعرّض حياتهن للخطر. مئات الأطفال يُعثر عليهم في مستوعبات النفايات. الفتيات اللواتي يعانين هنّ اللواتي يأتين من طبقات اجتماعية دنيا.

في النهاية، هذا ما أردتُ سرده: حكاية نساء مقيمات في الهامش.

هناك فارق بين أنْ يعيش الإنسان وأنْ يحاول البقاء على قيد الحياة. هذا الفرق هو برأيي ما يُظهره الفيلم.
يُعجبني ما تقوله. هذا هو بالضبط ما يحمله الفيلم من أفكار. إنّه عن نساء يحاولن البقاء على قيد الحياة. ليس لديهنّ وقت للعيش، إذْ إنّهن يخضن نضالاً يومياً لفرض حضورهن في مجتمع يعاملهن بقسوة شديدة. نعم، هي مسألة بقاء على قيد الحياة، لا عيش. أعتقد أنّهن يستحققن الحياة.


الفيلم مستوحى من قصّة حقيقية، عشتِها بنفسك. أليس كذلك؟
نعم. قبل 15 عاماً، حدث لقاء حقيقي بأمّ عزباء. عدتُ من الجامعة، عندما دقّت سيدة باب المنزل العائلي. كانت حاملاً، ولا تعرف أين تذهب. وقتذاك، إذا وضعت فتاة غير متزوّجة مولودها في المستشفى، تُستدعى الشرطة فوراً. أبي كان محامياً، فخاف عليها. استقبلناها في بيتنا، رغم أننا لم نكن نعرفها. عشتُ كلّ تفاصيل هذه القصّة. شهدتُ كيف نشأت العلاقة بين الأم وطفلها. غريزة الأمومة كانت تتعاظم في داخلها، رغم محاولات قمعها، لأنّها كانت تعلم أنّه لا يمكنها الاحتفاظ بالطفل. كأنّ هذا الطفل ليس طفلها. المجتمع قرّر عنها ذلك. لذا، كانت تمنع نفسها من أنْ تحبّ طفلها. كان شيئاً في منتهى العنف.

هذا الموضوع قلب حياتي رأساً على عقب، وترك فيّ أثراً لمدى الحياة. عندما حملتُ، شعرتُ برغبة في سرد الحكاية. مرّ 15 عاماً عليها. لم أكفّ عن التفكير فيها. لاحظتُ كم كان صعباً أنْ تحمل أمّ طفلاً، وهي تعلم أنّه لن يكون لها.

ألا تزالين على تواصل معها؟
لا. اختفت كلياً. أتمنّى أنْ ترى في يوم من الأيام هذا الفيلم، وتعلم أنّي لم أنسَها، وأنّها ظلّت داخلي بقية حياتي. هذا أكثر ما سيسعدني. تضحيتها قد تساعد نساءً آخريات، وربما أعادت بعض الكرامة إلى النساء وأطفالهنّ.

هل يمكن وصف "آدم" بالفيلم النسوي؟
إنّه فيلم نسوي، بمعنى أنّي أنتصر لإشكالية تعانيها النساء حصراً. هناك نساء يناضلن في مجتمع بطريركي. نعم، أنا امرأة، وبصفتي امرأة، هناك أشياء تمسّني، وأتفاعل معها على نحو مختلف عن تعامل الرجل معها. أروي الفيلم من خلال نظرتي كسيّدة، ومن خلال تجربتي كسيّدة. كتبتُ السيناريو عندما حملتُ بابني. هذا ليس تفصيلاً.

وضعتِ مولودين إذاً: طفلك والفيلم.
بالضبط. عندما انتهيتُ من الكتابة، كان طفلي قد أصبح في حضني. كان قد وُلد للتوّ. يثير هذا المخاض المزدوج شعوراً جميلاً. بالنسبة إليّ، السينما ليست مؤنثاً أو مذكّراً. لا أحبّ هذا التوصيف، ولا أحبّ أنْ يُعرَّف عنّي كـ"سيّدة تصنع الأفلام"، رغم جمال هذا الشيء. أجد أنّي أنجز الأفلام عن أشياء تمسّني. هذه المرة، تحدّثتُ عن المرأة، لكن في المرات المقبلة سيكون شيء آخر. في النهاية، ما يهمّني هو الإنسان.

توقّعتُ أنْ يسلك "آدم" درب المأساة في ختامه، إلا أنّكِ تمسّكتِ بشيء من الأمل، رغم كلّ شيء.
الفيلم كاد يتحوّل إلى مأساة، عندما تشدّ الأم طفلها إلى صدرها. رأيتُ نساء يفعلن هذا. شيءٌ عنيف جداً، يتخطّى الخيال. قد يقودك اليأس إلى مثل هذا الفعل، ويجعلك تفعل ما لا يمكن تخيّله. مع ذلك، أردتُ أنْ أختم بنوتة أمل. هذا يأتي من رغبتي في أنْ يساهم الفيلم في تحفيز نساء أخريات على النضال. أعرف فتيات كثيرات حافظن على أطفالهن، وهذا ألهمني كثيراً، خلافاً للفتاة التي استقبلها أهلي. هي اختارت أنْ تعطي طفلها لشخصٍ آخر. رافقتها يومذاك، ورأيتها تتنازل عن طفلها. رؤيتها تفعل هذا، كانت صدمة.

لماذا قرّرتِ المحافظة على وحدة المكان في طرح الأحداث، خصوصاً أنّكِ تتحدّثين عن قضايا اجتماعية، وأنتِ تبقين كاميرتك داخل أربعة جدران؟
وددتُ التركيز على الحميميّ، وعلى الحديث عن المجتمع من خلال الجانب الحميميّ للشخصيات. لذا، وددتُ الانغلاق على العالم، مع فتح نافذة بين وقت وآخر، هي ـ بالنسبة إليّ ـ نافذة على العالم والمجتمع، لكن من مسافة ملائمة. في السينما، لا أحبّ عندما نقول كلّ شيء. وددتُ أنْ أبحث عن حقيقة ما تعيشه هذه السيدات داخل كلّ واحدة منهنّ، والتركيز على ثورتهنّ الداخلية. لو صُوِّر الفيلم في مكان خارجي، لأصبح فيلماً آخر. أنا آتية من الأدب، وأعشق كلّ ما يتعلق بدواخل الشخصيات. هذا أمر يثير شغفي.

كيف اخترتِ الممثّلتين لبنى أزابال ونسرين الراضي؟ هل كانتا في بالكِ منذ مرحلة كتابة السيناريو؟
لا، لم يكن في بالي أحد خلال الكتابة، سوى الأم التي أخبرتك عنها. في البداية، بحثتُ عن ممثّلة غير محترفة، عاشت تجربة الأم العزباء. قابلتُ حالات مثيرة للاهتمام، لكن سرعان ما اكتشفتُ أنْ اختيار ممثّلة غير محترفة يقوّي الفيلم ويضعفه في آنٍ واحد، فأسندتُ الدور إلى محترفة، هي لبنى أزابال. أما نسرين الراضي، فلم أكن أعرفها قط. مثّلت في مسلسلات معروضة في التلفزيون المغربي. ما إن التقيتُها، حتى وقعتُ في سحرها.

المساهمون