مرض الخوف من الديمقراطية
سئل مغني الراي الجزائري، الشاب خالد، عن أسباب دعمه إعادة ترشيح عبد العزيز بوتفليقة، لولاية رئاسية رابعة. وبعفوية وصراحة، قال: أدعم ترشحه، على الأقل، لأن الجزائري، في عهده، أصبح يمكنه الخروج مع ضيوفه إلى فنادق جيدة في الجزائر، ويطلب كأس ويسكي بحرية. لنقلها بوضوح وشفافية.
لا يدعم الشاب خالد الرئيسَ المريضَ لولاية رابعة، لأن الأخير مرشح له برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، بل يدعم بوتفليقة الذي أمضى 14 عاماً في السلطة، لأنه وفر "الويسكي" للجزائريين في أماكن عامة، أي أنه رئيس دولة يدافع عن نمط من العيش والحرية الفردية لنخبة من الجزائريين، تخاف أَن يأتي شخص آخر، أو حزب أصولي، فيحرمهم من نمط عيشهم.
ما قاله مغني الراي لا تستطيع أَن تصرح به النخب العربية، التي تشاركه التخوفات نفسها على نمطها في الحياة، وتخاف أَن تأتي الديمقراطية بالأصوليين، أعداء "الويسكي"، وأعداء نمط العيش المفتوح إلى الحكم، فتعصف بمكتسباتهم. الحل، إذن، الاختباء تحت جناح الاستبداد الناعم، خوفاًمن الاستبداد الخشن.
ونتيجة للخوف على الحريات الفردية من الإسلاميين، صارت نخب ثقافية وسياسية، حتى من خارج دائرة السلطة، تعادي أي تحول ديمقراطي في مجتمعاتنا، وترى ثورات الربيع العربي خطراً على مصالحها ومكانتها وامتيازاتها، وشعارها في ذلك: من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه.
لا تقول هذه النخبة ما قاله الشاب خالد بصراحة، بل تختبئ خلف شعارات وتنظيراتٍ وفتاوى، لا تعبر، صراحة، عن مخاوفها الحقيقية، مثل أَن الإسلاميين أَعداء الديمقراطية، وسيصعدون على ظهرها، ثم يقتلونها.
صارت قطاعات واسعة من "العلمانيين" في بلادنا ضد الديمقراطية، لأَن الأخيرة ستأتي بالإسلاميين، وهؤلاء أغلبية في مجتمع محافظ و"متخلف". فما الحل؟
الحل، حسب هؤلاء، هو التحالف الموضوعي مع الأنظمة القائمة، ولو كانت مستبدة، لأن استبدادها سياسي، ومما يمكن تحمله. أَما استبداد الإسلاميين فاجتماعي وقيمي، ويمس الإنسان في حياته الفردية واختياراته الشخصية، وهو مما لا يمكن تحمله.
أما من مَخْرَجٍ من هذه الحلقة المفرغة التي تجعل مجتمعاتنا أمام خيارين: القبول بالحاكم المستبد، أَو المغامرة مع المعارض الأصولي المستبد (بفرض أن كل الأصوليين مستبدون، وقنافذ لا أملس فيهم)؟
طبعاً هناك حل، ومن الحماقة أن نسجن مجتمعاتنا وتطلعاتها إلى الحرية والديمقراطية داخل هذا "الشرك" الإيديولوجي القاتل: الاستبداد السياسي أو الاجتماعي؟
لا ترى نخبنا العلمانية والإسلامية، للأسف، في النظام الديمقراطي إلا نتائج صناديق الاقتراع، ووجود أغلبية يرونها تتحكم في رقاب الأقلية، من دون شفقة. وهذا خطأ كبير.
الديمقراطية "حزمة" مبادئ وقواعد وممارسات، منها: وجود دستور ينظم توزيع السلطات، ويحدد الثوابت والمتغيرات في نظام الحكم، ومن الثوابت حماية الحريات الجماعية والفردية، وتوازن السلطات واستقلاليتها، وحرية الإعلام والصحافة، وضمان حقوق الأقلية، وفي مقدمتها أن تصير غداً أغلبية، وسلطة الرأي العام على من يحكم، ورقابة المحكمة الدستورية على القوانين، وانتظام الدورات الانتخابية، واحترام التعددية. هذه مبادئ، وغيرها قواعد للنظام الديمقراطي، وليس فقط قانون الأغلبية والأقلية. وأفضل نظام يحمي حقوق الأقلية هو الديمقراطي.
ليس من حق حكومة منتخبة أن تدخل إلى بيت المواطن، لتحدد له الحلال والحرام، أو منع امرأة من الذهاب إلى البحر، وفتاة من ارتداء الجينز. هذه حقوق فردية لا تخضع لقانون الأغلبية والأقلية، إنها من ثوابت حرية المواطن في أن يعيش وفق ما يراه صالحاً له، ما دام لا يمس حريات الآخرين. وإذا أَراد الإسلاميون أَن يغيروا هذا النظام غداً، بعد أن صعد بهم إلى السلطة، فإن النظام ذاته سيسقطهم، لأن الشعب الذي يتربّى على الحرية لن يرضى بالوصاية والاستبداد، ولو كانا بنكهة دينية.
صحيح أَن تجارب مريرة عاشتها الشعوب مع حكم إسلاميين متشددين في السودان وإيران وأفغانستان (طالبان)، حيث جرى فرض نمط من العيش على السكان بوسائل قهرية. لكن، انتبهوا، وصل هؤلاء إلى الحكم، بانقلاب عسكري، أو ثورة شاملة، أو نزاع مسلح بعد فشل الدولة، ولم يصلوا بصناديق الاقتراع ومسار التحول الديمقراطي الهادئ.
يقول مثل أفريقي: ليس ضرورياً أن تقطع الشجرة، إذا كنت تريد أَن تجني ثمارها.