مرة أخرى: لا للمظاهرات

مرة أخرى: لا للمظاهرات

14 أكتوبر 2018
+ الخط -
كتبتُ، قبل أيام، مقالة استفزازية بعنوان "لا للمظاهرات"، ذهبتُ فيها إلى أننا، نحن السوريين، نبدو وكأنه قد كُتِبَ علينا "الركضُ والغبار وقلة القيمة".. نستهلك أعمارَنا ونحن نركض في الشوارع، وقد أَجْبَرَنا رجالُ المخابرات على حمل اللافتات والصور والأعلام، لتأييد المجرم الذي يقتل أبناءنا في السجون والمعتقلات، حافظ الأسد، أو المجرم ابنه من بعده..
نخرج لتأييد قاتلنا، وتتحكّم الطغمةُ المخابراتية الفاشستية بعدد أفراد مسيرتنا، ومخطط سيرها، والشوارع التي ستمر فيها، والكاميرات التي ستصوّر بؤسنا وشقاءنا، وأما الهتافات التي يجب علينا أن نردّدها فتأتينا مكتوبةً، ما علينا غير أن نردّدها ونحن نرقص، وندبك، ونزغرد.
بعد مضي أربعين سنة على هذا الوضع المُزري انتفضنا، وأصبحنا نخرج في الشوارع، حاملين أعلام الاستقلال الخضراء، لنهتف ضد استبداد الطغمة الفاشستية ذاتها، وفسادها، ونهبها خيرات بلادنا، فراح المجرمون يوجهون أسلحتهم إلى صدورنا، ويقتلوننا، في أثناء التظاهر، ويقتلوننا في أثناء دفن شهدائنا، ويضربون بيوتنا التي شيدناها من كدّنا وعرق جباهنا، بمختلف صنوف الأسلحة، فيهدمونها، ويجبروننا نحن على الفرار، واللجوء إلى بلاد الله التي لم تعد واسعة.. وبعد حين يأتي جنودهم إلى بقايا بيوتنا، مصطحبين معهم السيارات الشاحنة والعربات، ويسرقون ما تبقى من أثاثنا وعفشنا وأشيائنا الحميمة، ويبيعونها في الأسواق بأبخس الأثمان، مستفيدين من بيت الشعر القائل:
ومَنْ كَسِبَ البلادَ بغير حربٍ/ يهونُ عليه تسـليمُ البلادِ
في وقت لاحق، وقد نجح الفاشست في تمزيقنا وتشتيتنا، توقفنا عن التظاهر، وصارت مظاهراتنا المليونية العظيمة التي كنا نُقْتَلُ خلالها شيئاً من الماضي، فالإخوة، إخوة المنهج الذين استولوا على ثورتنا، واستولوا على المناطق التي فَرَّ الفاشستُ هاربين منها، منعونا من التظاهر، ومن حمل أعلام ثورتنا، وصاروا يعلقون أعلامهم السوداء مكانها، وجلسوا يدربّوننا على استعادة الذل والخضوع، ليس لفاشست آل الأسد، هذه المرة، ولكن لهم ولفتاواهم المتشدّدة.
وبعد زمن ليس طويلا؛ استعدنا شجاعتنا، وبأسنا، ولملمنا بقايا عزّة أنفسنا، وحملنا أعلام ثورتنا التي علاها الغبار، وخرجنا نهتف في وجه الحصار، وتهديد طائرات الفاشست من آل الأسد والروس والإيرانيين لنا بالقتل، والتشريد، ولكن سيف إخوة المنهج بقي مسلطاً على رقابنا، وتمكّنوا من إجبارنا على الاقتصار في اللافتات المكتوبة، والهتافات على إسقاط نظام الأسد، وجلسوا ينتظرون عودتنا إلى بيوتنا، ليداهموا بيتَ كُلِّ مَنْ سوّلت له نفسه للهتاف بشعار يُسْتَشَفُّ منه تَحَرُّرٌ أو وطنية أو ديمقراطية، ويسحبوه من بين عياله إلى "سجن العقاب"، فالديمقراطية، في قاموسهم، هي دين الغرب، والعلمانية كفر صريح، والمرأة كلها عورة.
كتبت في مقالة "لا للمظاهرات" أنني صرتُ أمقتُ المظاهرات، ليس لأنني أؤيد الظلم، أو أطالب بالخنوع، ولكنني أرى شعوبَ الأرض كلها تعيش في أمان، وسلام، وتنشغل في العمل والمرح والسرور والمساهمة في بناء الحضارة، بينما نحن السوريين مخيرون بين أمرين اثنين: الخضوع، والذل، والتعبير المستمر عن تأييد قَتَلَةِ أبنائنا، أو الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على شيء ما، والخوف من الاحتجاج على شيء آخر، ونُقْتَلُ في أثناء التظاهر، وتبقى جثثنا ملقية في العراء، أو تشفق علينا بلديةٌ ما، فترسل من طرفها جرّافة تجمع الجثث، وتطمرها في مقبرةٍ جماعيةٍ من دون تمييز، أو بكاء، أو رثاء، أو ذكر لمحاسن ميتنا، أو مناقبه، أو الفصول الضاحكة التي كان يصنعها قبل أن تسوّل له نفسه بأن يثور على النظام المافيوي الفاشستي.
قرأ صديقي عبد الرحمن الحاج عنوان مقالتي "لا للمظاهرات"، فاندهش، لأول وهلة، وقال لي: هل أصبحتَ ضد المظاهرات؟ لا طبعاً، لست ضدها. ولكنني أتمنى أن يمدّ العالم كله يده لنا، نحن السوريين، ويساعدنا على بناء دولةٍ لا يحتاج المواطن فيها للخروج لا في مسيرات التأييد، ولا في مظاهرات الاحتجاج، فلقد مللناها والله.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...