مرآة الأنام في دار السلام (9)

مرآة الأنام في دار السلام (9)

05 اغسطس 2020
+ الخط -

في أواخر حياة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، خرج من بغداد قاصدًا غزو الروم، وكتب إلى وزير داخليته إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بأن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن. يوجد متمردون ومعارضون دائمًا، وإن تمردوا تحت جلدهم فحسب، ولم يرق المأمون أن يُراجع في هذه المسألة؛ فأصدر قرارًا بالقبض على رؤوس المعارضة، والتنكيل بهم وشحنهم -مثل طرود البضائع- إليه في دار السلام.

أبرز المعتقلين في هذه الآونة الإمام أحمد بن حنبل، وصديقه محمد بن نوح، واقتيد الرجلان في الأغلال إلى حيث المأمون، وفي الطريق قضى ابن نوح تاركًا الجمل بما حمل لصديقه، ويا لها من تركةٍ ثقيلة ومهمة جسيمة. تميَّز المأمون وتلمَّظ لثبات ابن حنبل، وتوعد بضرب عنقه فور وصوله إليه، ولم يكشف ابن حنبل عن ورقة ضغط، ورقة رابحة لم تخذله يومًا، رفع رأسه إلى السماء داعيًّا الله أن يخلصه من شر المأمون، وبعد مدة تناقل الجند خبر وفاة المأمون، وذلك شهر رجب سنة 218هـ.

أعيد ابن حنبل إلى بغداد، لكن الشرطة تحفّظت عليه لحين إشعارٍ آخر، وحُبس 15 يومًا في لومان بغداد، وروعِي تجديد حبسه حتى أقبل الخليفة الجديد من بلاد الروم، وكان ملازمًا للمأمون، وترددت شائعات أن له يدًا في وفاة المأمون الغامضة؛ إنه أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الملقَّب بالخليفة المعتصم بالله.

دخل المعتصم بغداد مطلع رمضان 218هـ، وأمامه عدد من الملفات الشائكة، يريد أن يثبت جدارته بالخلافة بعد أخيه، وكان المأمون آيةً في القراءة وسعة الاطلاع، بينما الوافد الجديد محدود الثقافة معدوم المطالعة، ولتغطية جوانب القصور ومركب النقص، ارتأى أن يدوزن على وتر المعتزلة، وألا يخالف منهج المأمون في القول بخلق القرآن، حتى إنه أحاط نفسه بعدد من رموز هذه الحركة؛ أحمد بن أبي داود وبِشر المريسي.

أمر ابن أبي الليث بكتابة عبارة (لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق) على المساجد؛ فكُتبت على واجهات المساجد وصولًا إلى أرض الكنانة، ومُنع فقهاء المالكية والشافعية من الخطابة

اشتدت وطأة المعتصم على ابن حنبل، وأغرى به الجلاوذة حتى أثخنوا ضربًا بالسياط، حتى قال أحدهم -واسمه أبو العروق- في شهادته على العصر "ضربت أحمد بن حنبل 80 سوطًا، لو ضربتها فيلًا لهدمته"، ومع ذلك صمد ابن حنبل صمودًا أزعجهم وأحرجهم، ولما "غُلُب حمارهم" أدخلوه الحبس مرةً أخرى، ولم يظفروا بمرادهم.

يهمس لي صديقي ابن خَلِّكان أن تلك الأحداث جرت في الثلث الأخير من رمضان 220هـ، لكن ابن تغري بردي صاحب "النجوم الزاهرة" يخالف ابن خلّكان، ويرى أنها وقعت سنة 219هـ، وبذلك تبلغ مدة سجن ابن حنبل 30 شهرًا، خرج بعدها دون أن يقدِّم تنازلات، أو أن يداهن ويستعمل التقية، ويصفح عن المعتصم لوجه الله.

قرأ الناس نعي المعتصم في الجرائد والمجلات، وأقبل ابنه الواثق في ربيع الأول 227هـ يستلم المُلك، ولا يزال ملف القضية مفتوحًا، فأمر بتحديد إقامة ابن حنبل، لم يعذبه أو يؤذيه جسديًّا، ربما لعلمه أن التعذيب لن يوهن عزيمة الرجل، ولا سيَّما أن سجلات الأمن الوطني تؤكد صلابة ابن حنبل، وتنفي جدوى استخدام العنف معه، فضلًا عن رصد ضباط أمن الدولة كثرة سواد أتباع ابن حنبل، وتخوفوا من انفجار الشارع؛ فقرروا تهدئة اللعب، وكتب إلى ابن حنبل "لا تساكنني بأرض"، وقيل إنه كتب إليه يأمره بعدم الخروج من بيته.

ولم تهدأ وتيرة اللعب على المستوى العام، إنما على صعيد التعامل مع أيقونة بحجم ابن حنبل، ولأسباب متباينة أصر الواثق على خوض لُججٍ خاضها أبوه وعمه من قبله؛ فكتب إلى وزير داخليته محمد بن أبي الليث بامتحان الناس في المحنة ذاتها، وسادت البلاد هوجة ولا هوجة الحمى الإسبانية ولا حتى كوفيد-19. هرب بعض المطلوبين، واستتر بعضهم، ومنهم من حاول ضرب جواز سفر وركوب البحر، كله يود أن يهرب بجلده حتى يرفع الله الغمة.

إمعانًا في ترسيخ الموقف الرسمي، أمر ابن أبي الليث بكتابة عبارة (لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق) على المساجد؛ فكُتبت على واجهات المساجد وصولًا إلى أرض الكنانة، ومُنع فقهاء المالكية والشافعية من الخطابة والفتوى والظهور الإعلامي، ومنهم من ضُربت عليه الإقامة الجبرية، تحرُّزًا من الاختلاط بالجماهير والتأثير فيهم.

مات الواثق والمحنة معقودٌ لواؤها في دار السلام والأمصار العباسية، وأضمر الخليفة الجديد نقض ما أبرمه المأمون والمعتصم والواثق، نسف محنة خلق القرآن في ساعات، وإن كان "اللي يجيبه النمل في سنة، ياخده الجمل في خفه"؛ فهذا حال المعتزلة في خلافة المتوكل. مارس أبو الفضل جعفر بن المعتصم (الملقَّب بالمتوكل على الله) سلطاته كاملةً غير منقوصة في ملف محنة خلق القرآن، وإن كانت يده مغلولة بتسلُّط التُّرك في باقي الملفات، لكنه أبدى صلابة في هذا الملف على وجه الخصوص.

ظل ابن حنبل مختفيًا حتى قضى الواثق، وخرج للناس مع بواكير خلافة المتوكل (في ذي الحجة 232هـ)، وأصدر المتحدث الرسمي باسم دار الخلافة الإسلامية بيانًا تاريخيًّا، نهى فيه عن الجدال والمناظرة في خلق القرآن، وتوعد المخالفين بعقوبات مُغلَّظة، وأمر بإظهار رواية الحديث وإعلاء كلمة أهل السُّنة، وأطلق سراح المعتقلين على ذمة هذه القضية، وزاح عن كواهل المسلمين كابوسًا طال واستطال.

لم يفوِّت المتوكل ثأره مع وزير الواثق، محمد بن عبد الملك الزيات، وكان يسيء معاملة المتوكل ويتعمّد ذلك أحيانًا، ويقتِّر عليه في النفقة ويحقِّر أمره، بل ودعا بالبيعة لمحمد بن الواثق على حسابه؛ فلم تمضِ 6 أسابيع من خلافته، إلا وتخلص من ابن الزيات وأودعه التنور، وبات الجلاد ضحية أمسه وقتيل يده. يومها، عاش القاضي ابن أبي داود مزيجًا من الأحاسيس، كوكتيلاً غريباً لم يدرِ كنهه؛ فقد تخلص أخيرًا من منافسه الشرس، وعدوه اللدود ابن الزيات.

نفذ ابن أبي داود الحكم في غريمه، وسكنت نار صدره وهو يراه جثة هامدة، ثم تتبَّع أصدقاءه من عِلية القوم والكتاب وزمرة المثقفين، وبحث طويلًا عن أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وكان من خاصة ابن الزيات والمقربين إلى قلبه قبل مجلسه.

دلالات