مدينة صور حزينة في عيد الأضحى

مدينة صور حزينة في عيد الأضحى

03 اغسطس 2020
البائعة وحدها هنا (حسين بيضون)
+ الخط -

الأوضاع المعيشية القاسية، وأزمة كورونا في لبنان، جعلت حتى مدينة صور الشهيرة بموسم اصطيافها، حزينة في عيد الأضحى

"اختفى العيد" تقول أربعينية تجلس على كرسي أمام باب متجرها في مدينة صور، جنوبي لبنان، بانتظار زبون يفتتح صندوقها الخالي من النقود، هي التي لم تكن تجد وقتا لتدخّن سيجارتها، بسبب كثرة الوافدين لشراء الهدايا والثياب والألعاب بمناسبة عيد الأضحى في الأعوام الماضية. ومع سؤالها: "كيف الشغل؟" تضحك ساخرة بما يلخّص إجابة نابعة من تردّي الأوضاع المعيشية في البلاد، وضعف القدرة الشرائية لدى المواطن.
تتحدّث صاحبة المحلّ عن أجمل الأوقات واللحظات التي حفرت في ذاكرتها، حين كان الأولاد يركضون في السوق، والأمهات ينادينهم للعودة إلى غرفة قياس ملابس العيد قبل شرائها، والآباء ينتظرون في الخارج ويتحدثون في شؤون المدينة والسياسة المحلية والإقليمية. وتقول: "أجواء لا تنسى ليس فقط على الصعيد المادي، بل كذلك لناحية الناس الذين بالرغم من الظروف الصعبة التي لطالما رافقت اللبنانيين خلال ثلاثين عاماً وأكثر، كانوا يضحكون ويبتسمون عند إلقاء التحية على المارّة، ويواسون بعضهم بعضاً بأنّها فترة وتمضي. لا أدري كيف تغيّرنا في أقلّ من سنة، وبالكاد نحمل همومنا الشخصية فيما اليأس ربح جولاته كلّها علينا؟ هو تعب ضاعف أعمارنا، فيما الحياة تبدّلت".

في جولة "العربي الجديد" في السوق، كانت أبواب المحال في معظمها مقفلة، ليس بسبب الإجراءات الجديدة المرتبطة بارتفاع الإصابات بفيروس كورونا وتداعياته الكارثية على قدرة المستشفيات الاستيعابية فزيارتنا كانت قبيل اتخاذ مجلس الوزراء القرار بإعادة إقفال البلاد وتمديد التعبئة العامة، إنّما نتيجة الأزمة الاقتصادية وتدهور العملة الوطنية، وارتفاع معدل الفقر والبطالة والجوع. نصل إلى محلّ لبيع الذهب، يجلس فيه رجل ستينيّ والسبحة بيده. في البداية، يبتسم معتقداً أنّه حظي بزبائن يريدون شراء الذهب بمناسبة العيد، قبل أن تتغيّر ملامحه ويطلب منا الجلوس. يقول لـ"العربي الجديد": "لا بيع يسجّل لدينا، وبالعكس فالزبائن باتوا يلجؤون الينا حتى نشتري منهم الذهب، مع بعض الاستثناءات إذ إنّ البعض يشتري السبائك بدلاً من ادخار الأموال النقدية، لكن عدا عن ذلك، لا إقبال على الشراء فالذهب أصبح من الكماليات اليوم علماً أنّنا في مثل هذه الفترة سواء الأعياد أو موسم الاصطياف والأعراس وحفلات الخطوبة كان المحل يزدحم بالزبائن لبنانيين وأجانب وعرباً. للأسف، نفتقد كثيراً هذا المشهد".

الصورة
مدينة صور2- حسين بيضون

وفي متجر لبيع الملابس والأحذية، كان لافتاً وجود عدد من الزبائن، ولدى سؤال صاحب المتجر عن وضع المبيعات، يجيب: "معظمهم من المتفرّجين، إذ يلقون نظرة سريعة على البضائع والأسعار، ويغادرون. هناك من يقيس الثياب ويفرح عند ارتدائها قبل أن يعقد حاجبيه عندما يتذكر أنّه لا يستطيع دفع ثمنها، علماً أنّ الأسعار زهيدة جداً مقارنة بمناطق أخرى ولم نتمكّن من رفعها بالرغم من الخسائر التي نتكبّدها بالنظر الى الحالة المعيشية السائدة". وأثناء الحديث، تقاطع سيدة حاولت مساومة صاحب المتجر لمراعاتها في السعر، فالقطعة بـ15 ألف ليرة لبنانية (10 دولارات رسمياً، لكنّ سعر الصرف يتدنى إلى دولارين في السوق السوداء) فيعتذر منها: "البلوزة (قميص خفيف) أبيعها برأسمالها (بكلفتها الأصلية) ولا أربح فيها ليرة واحدة، لكن لا يمكنني أن أخسر المزيد" فتتركها على الطاولة وتخرج. ومع استئناف الكلام، معه، يقول: "خمس دقائق، تجيب عن كلّ الأسئلة، هذا هو ملخّص يومنا، ناس يريدون أن يشتروا بأسعار زهيدة جداً، ونتفهّم ذلك بالنظر إلى وضع البلاد، فيما صاحب المتجر لم يعد يفكّر في الربح بل فقط بتأمين ما دفعه للتاجر المورّد من ثمن البضائع. إلى هنا وصلت بنا الحال". ويشير إلى أنّ الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها ليست مرتبطة فقط بفيروس كورونا الذي فاقمها حتاً "بل بتراكم الأزمات التي بدأت تنعكس سلباً علينا قبل سنة، إلى أن انفجر الوضع اليوم فكانت الضربة القاضية. هناك من ما زال يقاوم مثلي، بينما أقفل آخرون محالهم مستسلمين".

من السوق الى مرفأ الصيادين، يجلس رجال لتناول القهوة وتبادل الأحاديث عن التطورات السياسية ويتكهّن كلٌّ منهم حول مصير البلد، ويعرّجون على موضوع كورونا بقلق أو عدم اكتراث، فيما التقيّد بالإجراءات الوقائية غائب كلياً، فلا كمامات ولا تباعدَ. تقابل هؤلاء حركة ناشطة من المارّة، وسائقي الدراجات النارية والهوائية، وقلّة من السائحين، علماً أنّ مدينة صور كانت تستقطب سنوياً أكثر من 400 ألف شخص من مختلف الجنسيات بمن فيهم المغتربون اللبنانيون، نتيجة تميّزها بالشاطئ الرملي والصخري والمباني التراثية والأسواق الضيقة والمقاهي العتيقة التي يكسر هدوءها صوت النرد.

مدينة صور3- حسين بيضون

هناك يجلس أبو نقولا، بالقرب من مركبه الصغير يفكّ الشباك، بعد يوم طويل حارّ جداً: "تفضّلوا" يقول لنا، ويتابع: "السمك أرخص من اللحمة، وربما أغلى من الدجاج لكنّه ألذّ طعماً". ومع سؤاله عن حركة المبيعات في العيد، يقول: "لا عمل، ولا عيد. البحر بيتي وهوايتي، وأولادي السبعة تربّوا في المياه، وكبروا، كما عشت أنا أكثر من خمسين سنة في البحر وما زلت وأنا في السادسة والستين وسأبقى وإن لم أبع سمكة واحدة". وبالقرب منه صياد، يقول قبل مغادرتنا: "تجهزوا من الآن لنقل صورة عيد الميلاد (24 - 25 ديسمبر/ كانون الأول المقبل) فالمشهد حينها سيكون أكثر قساوة، حين يجتمع أفراد العائلة على مائدة من دون طعام أو ألعاب تحت الشجرة القديمة التي لا أضواء عليها حتى".

المساهمون