مديح الكَركَدَن
مديح الكَركَدَن
وقد ضَلَّ قَومٌ بأصنامهم فأمّا بِزِقِّ رِياحٍ فَلا (Getty)
كان على أسامة بن منقذ، الأمير والشاعر والدبلوماسي، أن يُنفى من بلاده، وأن يُحال بينه وحكم إمارته، كي ينجو من ميتة محقَّقة. هذه "الضَّارة" كانت أنفع لنا، ألف مرة، من أن ينشغل ابن منقذ في شؤون إمارته التي اغتصبها عمُّه منه. كانت قد مرَّت عشر سنين على منفاه، عندما عَلِمَ بدمار إمارته وموت جميع أفراد آل منقذ بزلزال ضرب ثلاثين مدينة وبلدة في وسط سورية، ومن ضمنها بلده "قلعة شيزر". دمار بلاده وفناء آل منقذ، عن بكرة أبيهم، كانا السبب المباشر وراء انطولوجية شعرية فريدة من نوعها، وضعها بعنوان "المنازل والديار" (تحقيق مصطفى حجازي).
عندما يملك المرء شيئاً لا يفكر فيه. يعتبره من قبيل تحصيل الحاصل، لكنَّه يفعلُ عندما يفقده. بيد أن البيت ليس شيئاً. الديار ليست شيئاً، فهذان لهما "الصدر دون العالمين أو القبر". فهما وطنان متداخلان، لا يكون هذا من دون ذاك. فأي مأساةٍ أن يفقد المرء بيته وبلده ومن استوطنوهما؟ أظنها مأساة مروِّعة، غير أن هذه المأساة المروعة لم تدفن ابن منقذ حياً في البكاء والنحيب وانعزال الناس، بل دفعته إلى الوقوف المتأمل في موقع المنزل والديار في الإرث الشعري العربي، فخرج إلينا بموسوعةٍ من القصائد والمقطَّعات والأبيات التي تذكر البيت والديار، أو تقف على أطلالهما الحائلة، بالتغني أو التأسّي.
***
لمن لا يعرف موقع الديار والمنازل في الشعر العربي، سيذهل وهو يتصفح مصنَّف ابن منقذ الفريد هذا. فذكر المنزل والديار كانا منهجاً شعرياً واجب الاتباع، حتى بات تقليداً مجَّه شعراء التحضّر العربي، مثل أبي نواس الذي سخر ممن يفعل ذلك بالقول:
قل لمن يبكي على رسمٍ درس
واقفاً ما ضرَّ لو كان جلس!
لكنَّ هذا حدث في العصر العباسي الذي لم يعد يرى ضرورة للتقيّد بتقليدٍ صار مصطنعاً، بعدما تغيّر الواقع العربي، وتغيّرت بالتالي، (نسبياً طبعاً) القصيدة العربية، وصار هناك ضرورة لترى زمنها وواقعها، وتصدر منهما وليس من التقليد القديم. وهذا، في كل حال، ما تعكسه، على نحو ضمني، انطولوجية ابن منقذ.
ليس البيت الذي يسكنه المرء، وأبعدته عنه صروف الدهر هو الذي يستأهل المديح، أو التغنّي في القصيدة العربية الكلاسيكية، بل الأرض التي تضم تلك المنازل، بالأخص تلك المتعلقة بالحبيبة. فالشاعر العاشق الذي تعْتعه الهوى ليس على استعداد لامتداح كل ما تأتي به الريح من ذلك الصوب فحسب، بل إنه مستعد لتقبيل الريح نفسها، وتقبيل الخطو والأثر، ففي ذلك تقبيل للحبيبة، واستنشاق لعبيرها والاقتراب منها، حتى لو تعلق الأمر بالتراب الذي مشت عليه. فهذا قيس بن ذريح يقول:
وما أحببت أرضكم ولكن
أقبِّل أثرْ من وطىء الترابا
وليس هذا شأن شاعر ذي نفْسٍ مجلجلة مثل المتنبي. فلا نكاد نعثر له على تأسٍّ على مكان. نفسه (وهوانها بين "الصغار"!) هي التي تحزُّ في نفسه. لا نعرف على وجه الدقة مراد المتنبي، ولكنه لم يترك عندنا شكّاً، في من هو:
لِتَعلَمَ مِصر وَمَن بِالعِراق
وَمَن بالعواصِمِ أَنّي الفَتى
وَكُلُّ طَريقٍ أَتاهُ الفَتى
عَلى قَدَرِ الرِجلِ فيهِ الخُطا
ولا يَنسى، ما دمنا نتحدث عن البلدان والديار، أن ينهي قصيدته في هجاء كافور على نحو عنصري سأعفُّ عنه، وأختم بهذه الأبيات التي يوجهها إلى كافور حاكم مصر:
وماذا بِمِصرَ مِنَ المُضحِكاتِ، ولَكِنَّهُ ضَحِكٌ كالبُكا
وشِعرٌ مَدَحتُ به الكَركَدَنَّ بَينَ القَريضِ وبين الرُقى
فما كانَ ذلك مَدحاً له، ولكنّه كانَ هَجوَ الوَرى
وقد ضَلَّ قَومٌ بأصنامهم فأمّا بِزِقِّ رِياحٍ فَلا
وتلك صُموتٌ، وذا ناطِقٌ إِذا حَرَّكوهُ فَسا أَو هَذى
ومَن جَهِلَت نَفسُهُ قَدرَهُ رأى غَيرُهُ منهُ مالا يَرى.