مخلوقات الأرض اليباب: بانكسي يشيّد "ديستوبيا" على شاطئ شعبي

مخلوقات الأرض اليباب: بانكسي يشيّد "ديستوبيا" على شاطئ شعبي

29 اغسطس 2015
مدينة ديستوبيا سيتم افتتاحها اليوم (ماثيو هاوارد/Getty)
+ الخط -
"في هذه الحفرة النخرة بين الجبال/ في ضوء القمر الشاحب، العشب يغني/ على قبور مقلوبة، عن الكنيسة/ هذه هي الكنيسة صغيرة فارغة، موطن للريح/ لا نوافذ لها، وبابها يصطفق، العظام اليابسة لا تؤذي أحداً/ ثمة فقط ديك واقف على الدعامة/ في ومضة البرق يصيح: كو كو ريكو كو كو ريكو/ ثم عصفة رطبة تجلب المطر".

بهذه الأبيات من الشاعر البريطاني تي أس إيلوت "الأرض اليباب" يمكن أن ننظر إلى "ديستوبيا" رسام الغرافيتي البريطاني، أيضاً، بانكسي. هذا وصف يليق بمدينته الديستوبية، القاتمة، المتحللة، التي سيتم افتتاحها، غداً السبت، من دون أن يكون "صاحب العرس" حاضراً، فبحضوره تتبدَّد أسطورته القائمة على الغياب. يعيش بانكسي ويعمل في ظل ثنائية الغياب والحضور. غياب الشخص والهوية الصريحة وحضور العمل والأثر.

قد يطول الغياب، بما أن لا وجه له في الإعلام، ولم يره أحد وهو يترك "هداياه" على جدران رثَّة وحزينة، لكنه لا يلبث أن "يظهر" على وقع حماسة أنصاره واحتفاء المجلات والصفحات الفنية بأعماله المرتبطة، غالباً، بقضايا سياسية أو اجتماعية.

اقرأ أيضاً: "ديزمو لاند" لبانكسي: عالم الأحلام المحطّمة والكوميديا السوداء

بانكسي مرتبط في ذهن الجمهور العربي، الفلسطيني خصوصا، برسوماته على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي. صارت هذه الرسومات، التي سخر في بعضها من فكرة العزل، واخترق ببعضها الآخر الجدار بركلة قدم، وفتح لطفلة فلسطينية، في رسمة شهيرة، ثغرة في الجدار، محجَّاً للمحتجين والسياح الأجانب الذين يصلون، بالقطارة، إلى الضفة الغربية.

شئنا أم أبينا، أعطى بانكسي للاحتجاج على الجدار دفعة قوية في وسط الشبيبة العالمية التي تتصل بالعالم الرقمي، إخبارياً وفنياً، وتنشط في منصاته المتداخلة.

الآن.. هناك عودة لبانكسي، حيث لا يتوقعه، كالعادة، أحد. فقد اختار فناء منتجع سياحي، أنشئ في بدايات القرن الماضي، ويرزح، اليوم، تحت وطأة الهجران، لكي يقيم فيه "معرضه"، قل مدينته، على رقعة واسعة من تلك الأرض اليباب.

من بعيد تلوح معالم المدينة البانكسية: شيء يشبه ديزني لاند، ولكن في أزمنة ما بعد الصناعة، على انقاض الصناعة المتروكة لتعاقب البرد والمطر والقتامة والصدأ. عكس ديزني لاند التي تتوهج أضواؤها، تمرحُ كائناتها الكرتونية الأليفة، وتتألق شخصيات أفلامها العائلية بالبريق الهوليودي، ترى في مدينة بانكسي أبراجاً قروسطية منخورة، حرساً من الكرتون، ساندريلا، صاحبة الحذاء المسحور إياه، ساقطة، مع عربة القرع والأحصنة، ميتة، والباباراتزي، يسلِّطون على جثتها، في انعدامٍ حسيٍّ تامٍ، كاميراتهم البليدة. يمكنك أن ترى دكاناً يقدم قروضاً مالية، ولكن بفائدة 5000 في المائة!

اقرأ أيضاً: تحفّظ على جدارية "بانكسي" لنزاع قضائي في غزّة

مكان مهجور كهذا، ولكنه قريب من شاطئ يؤمّه أناس شعبيون، هو بيئة مثالية لبانكسي، وللغرافيتي عموماً. لا يعيش الغرافيتي في أحياء المال والنخبة الاجتماعية. لا مجال له، مثل النبات البري، أن ينمو. فهناك، دائماً، أيد "تشذِّب" و"تقصُّ" و"تعزل" الطارئ والغريب.

للغرافيتي بيئته الخاصة: المدن والأحياء الداخلية، المجمَّعات السكنية الحكومية لذوي الدخل المحدود، المعامل ومحطات الوقود والقطارات المهجورة. لكن يجب أن تكون قريبة من الناس، تحت نظر المقيمين بالقرب منها، أو العابرين بها، وإلا لا معنى لرسومات حَمَلِة البخاخات الذين يتسللون، كالمُطَارَدين، على أطراف أصابعهم لطبع بصمتهم الغاضبة.

فـ"رسالتهم" المرسومة بالدهان تظلُّ، والحال، طريقها. الغرافيتي الذي تغريه الجدران الباهتة، لا يترعرع إلا حيث يمكن تلقيه بسهولة، والبقاء، قيد النظر، أطول فترة ممكنة، قبل أن تمتد الأيدي الرسمية لـ"تنظف" الجدار/ المنبر مما لحقه من تطاول "غير قانوني".

السلطة الأقوى في يد السلطة الحاكمة (غير الدبابات عندنا) هو القانون الذي غالباً ما يحمي مصالح الأقوياء. من خصائص الغرافيتي أن يستفزّ. وبالتالي أن يكون عرضة للمحو. كما فعل، مثلاً، المجلس العسكري في مصر عندما قام بحملة لمحو الرسمة الشهيرة التي تحمل وجهيْ "جانوس" العسكري: مبارك وطنطاوي، أو غرافيتي شارع محمد محمود الذي أزاله "عمال النظافة" بـ"الخطأ"، أو غرافيتي الثورة، الذي أزيل هذا العام، من على جدران كلية الفنون في الأقصر، رغم أنه موجود، ربما للمرة الأولى، حيث يليق به أن يكون.

اقرأ أيضاً: بانكسي ينشر فيلماً يهاجم إسرائيل ويتعاطف مع غزّة

عكس ديزني لاند، إذن، يقيم بانكسي مدينته التي بدأت تلوح لرواد الشاطئ الشعبي في Weston-super-Mare في منطقة سمرست. ورغم أن أحداً من المشاركين في "مدينته"/ معرضه التي عليها أطلق اسم Dismaland، لم يره، ولا يعرف من هو بانكسي، إلا أن هذا لم يمنع بعض كبار فناني التجهيز والبوب آرت، مثل مواطنه ديمون هيرست والأميركية جيني هوسلر، من المشاركة فيه.

مدينة بانكسي الجديدة المحملة برموز وإسقاطات وإشارات مباشرة لصراعات سياسية واقتصادية واجتماعية عالمية، ليست، بالطبع، لبانكسي. هو صاحب الفكرة ومنفذ المشروع، من دون أن يراه أحد (!!) ولكن هناك نحو 58 فناناً من بلدان مختلفة من العالم يشاركون فيه بأعمالهم، ولنا فيهم حصة معقولة.

لم ينسَ بانكسي الذي زار فلسطين، أكثر من مرة، أن تحضر بثلاثة فنانين هم: سليمان منصور، سامي موسى، شادي زقزوق، ولسورية التي تغرق في الدم والردم، تحت وابل من البراميل، فنانان هما فارس خاشوق وتمام عزام، ومن مصر هناك الفنان الشاب المسمى "التنين"، أما المشاركة النسوية العربية، الوحيدة، فتأتي من السعودية التي تحمل اسمها الفنانة هدى بيضون.

الكوارث شرقية
رغم أن المصائب السياسية والاقتصادية، الى الحروب وكوارث الطبيعة، تكاد تقتصر على العالم الثالث، فإن النسبة العظمى من المشاركين في مدينة بانكسي الديستوبية هم من الغرب. وهذه مفارقة. فهذا الفن ابن للقضايا والمشاكل السياسية والاجتماعية، وأياً تكن إشكالات الغرب، على هذا الصعيد، فهي لا تقارن البتة بما يعرفه العالم الثالث الذي يتعرض إلى نوع من محوٍ وتدميرٍ، واسعي النطاق، يطاولان الطبيعة والبشر على السواء.

اقرأ أيضاً: الفنّ الغرافيتي.. المتحدث الصاخب

مع ذلك، فإن اختيارات بانكسي العربية الفنية موفقة. فمن فلسطين هناك فنان من خارج "العالم الرقمي" و"أجيال الديجتال" مثل سليمان منصور، صاحب لوحة "جمل المحامل" الشهيرة التي بدت، في حينها مباشرة وساذجة، لتصبح اليوم جزءاً من الذاكرة الفلسطينية.

إلى جانب منصور هناك فنانان شابان ينتميان إلى عالم بانكسي، ورفاقه، هما شادي زقزوق الذي رفض له "دبي آرت" عملا يعرض سروالا داخلياً تحمله فتاة ملثمة وعليه كلمة "إرحل"، وسامي موسى الذي له أعمال عديدة عن الجدار العنصري وأشكال القوة الإسرائيلية المتغطرسة.

أما من سورية فهناك مشاركة لفنانين شابين لفتا نظر الأوساط الفنية والإعلامية بأعمالهما التي رافقت مجازر النظام السوري ضد شعبه. اشتغل شادي خاشوق على الملصق وتقنياته، وكان "بطله" المفضل بشار الأسد بسمت المجرم المنفصل عن الواقع. أما تمام عزام فقد أثار الانتباه بتحويله لوحة غوستاف كلميت الشهيرة "القبلة" إلى واجهة للخراب الذي أحدثته آلة الأسد العسكرية، والموناليزا في إطارها الشهير وخلفها ركام من يوميات "الأسد أو نخرب البلد"..

وسط المشاركة العربية هناك صوت نسائي واحد من السعودية هو الفنانة هدى بيضون. وهذه فنانة شابة اشتغلت على قطاع العمالة غير القانونية في السعودية، ووصلت بعض أعمالها إلى بينالي فينسيا المرموق.

اقرأ أيضاً: فتاة تطلق بالونا أحمر تضامنا مع سوريا

المساهمون