محمد منير... أغانٍ سقطت في الطريق إلى القوات المسلحة

27 يوليو 2020
+ الخط -

بالتزامن مع ذكرى 30 يونيو/ حزيران وانقلاب الثالث من يوليو/ تموز عام 2013 في مصر، أطلق محمد منير أغنية "الناس في بلادي" التي أهداها إلى "إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة" التابعة لوزارة الدفاع المصرية. لم تحقّق الأغنية أي نجاح حقيقيّ، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ رغم وصول عدد مشاهداتها إلى مليون مشاهدة على "يوتيوب"، إلا أن التفاعل معها كان متواضعاً بنحو غريب، وخصوصاً أن كل أغاني منير غالباً ما تحدث ردود فعل كثيرة.

الأغنية من كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي وألحان محمد رحيم. أخرج منير إذاً نصاً جديداً للشاعر المصري الكبير بعد 5 سنوات على رحيله، علماً أنهما تعاونا مراراً طوال مسيرة "الكينغ"، فكانت البداية في أواخر الثمانينيات بأربع أغانٍ، هي: "شوكولاتة" و"مش جريء" و"كل الحاجات" و"بره الشبابيك" من ألبوم "شوكولاتة" (1989)، ثم أغنية "يا قمر صيفي" في ألبوم "يا إسكندرية" (1990)، ثم أغنية "الليلة دي" في ألبوم "ممكن" (1995).

كلّ الأغاني السابقة تدورُ في فلك العلاقات العاطفية، وأنجحها طبعاً أغنية "كل الحاجات" التي استطاع فيها الأبنودي تجسيد الحالة النفسية للفرد بعد خروجه من علاقة عاطفية فاشلة. إلا أن "الخال"، بعد سنوات عدة، عاد مرة أخرى ليتعاون مع منير في أغنية طبعت الجيل الثاني من جمهور منير، الجيل الأصغر سناً في أغنية "يونس" من ألبوم "طعم البيوت" (2008). في "يونس" يضع الأبنودي مقدمة: "عشان ما تفضلش الأغنية قرعة"، على ما قال هو نفسه للملحن محمد رحيم. فكانت جملة "وده حب إيه اللي من غير حرية" في المقدمة، كفيلة بنجاح العمل، وربما نجاح الألبوم عموماً. حمّل الناس "يونس" أكثر مما تحتمل، ربما لأنها نتاج تعاون بين منير والأبنودي، أو ربما لأن سنة صدورها كانت تشي بتغيير كبير قادم، في وقت كان فيه المصريون في تعطّش لأيّ جملة ثورية في قالب سياسي أو عاطفي.

واستكمل ثنائي منير ــ الأبنودي الخطّ نفسه في ألبوم "أهل العرب والطرب" (2012)، في أغنيتي "يا حمام" و"قلبي ما يشبهنيش". تعيدنا "قلبي ما يشبهنيش" إلى تعاون آخر للثنائي في "مين ياخد قلبي المليان" التي شكّلت جزءاً من عالم خاص ومختلف في رحلة منير والأبنودي. إذ عمل الرجلان معاً في ألبومين كاملين أنتجا أغاني أُذيعت ضمن مسلسلات تلفزيونية. أول هذه الألبومات كان لمسلسل "أهلاً يا جدو العزيز" (1989) وحمل اسم "مقدرش" مع الملحن منير الوسيمي. وهو الألبوم الذي ضمّ أغنية "مين ياخد قلبي المليان". أما الألبوم الثاني فكان "يا حبيبتي"، وضمّ أغاني مسلسل "جمهورية زفتى" (1997)، مع الملحن جمال سلامة، وأغاني وطنية وسياسية وثورية.

وقد حدّدت تجربة "جمهورية زفتى" جزءاً كبيراً من مسيرة الأبنودي مع الشعر الغنائي، كذلك فإنها وضعت محمد منير في منطقة مختلفة عن مطربي جيله. إذ رغم أن تلك الأغاني لم تأخذ شهرة مثل باقي أغاني منير، إلا أنها جزءٌ مهم من رحلته وتجربته. وقد كان الأبنودي قادراً في تلك القصائد المغناة على اختزال وتركيب جمل تثير انفعالاً وطنياً تلقائياً. وهي سمة اشتهر فيها الشاعر الراحل، لكونه واحداً من أهم شعراء الأغنية الوطنية منذ أيام عبد الحليم حافظ، وصاحب أشهر أغنية تعبّر عن هزيمة 1967، أي "عدى النهار" التي أعاد منير تأديتها بعد مطربها الأصلي.

كل ما ورد أعلاه مجرّد سرد يوصلنا إلى أغنية منير الأخيرة "الناس في بلادي". فإذا ما أخرجنا العمل من سياقه السياسي والتطبيلي للنظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، يبدو واضحاً أن الأغنية تتويج لعشر سنوات من الانحدار السريع لتعامل منير مع الأغنية "الوطنية". منذ أغنية "إزاي" (2010) بدا واضحاً استسهال الفنان المصري في خياراته، وخصوصاً إذا ما قارنّاها بأعماله الوطنية القديمة. هل يتذكّر منير أغنية "يا عروسة النيل" أو "اتكلمي" أو "قلب الوطن مجروح"، أو "شمس المغيب" أو "ساح يا بداح" التي يقول فيها الجملة الشهيرة "طول العمر العسكر عسكر/ بس الناس الناس كانت ناس"؟ وطبعاً، غيرها من الأغاني التي تحمل سمات وطنية وسياسية قدّمها منير.

في الأغنية الجديدة نرى ضعفاً واضحاً في كلمات الأغنية، استسهال وبحث عن الوزن والقافية بشكل غريب عن الأبنودي نفسه، فنستمع إلى صور شعرية غير مكتملة، لا تليق بما قدمه الشاعر المصري خلال مسيرته الشعرية العظيمة والحافلة. لا شكّ في أن منير قدّم الأغنية بهذا الاستعجال وهذه الركاكة لأسباب لا علاقة لها بصناعة الموسيقى، وبخلفيات سياسية بحتة. لكن مجدداً، منير الذي لم يقدّم نفسه يوماً كمغنّ ثوريّ، نجح في خلق صورة ربط بينه وبين الانتفاض على كل ما هو تقليدي. ولعلّ الفضل الأول بذلك يعود إلى عرّابي نجاحه: الشاعر عبد الرحيم منصور والملحن أحمد منيب.

لكن محمد منير الآخر، ذلك الذي ترك نجاحات الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية، اختار لنفسه طريقاً آخر. وهذه المرة أيضاً ستختفي أغنية منير الجديدة ولن يتذكرها أحد، كما لن يذكرها أحد ضمن أرشيف قصائد الأبنودي، وستبقى أغاني منير القديمة، وسيبقى ألبوم "جمهورية زفتى" وأغاني مثل "اغضبي يا دنيا"، و"يا حبيبتي"، و"الفرج شقق"، هي التي تذكّر عشاق منير لماذا تحوّل فنانهم المفضّل من شاب نوبيّ بأحلام كبيرة إلى ملك على الساحة الموسيقية. أما أغنيته التي يهديها إلى الشؤون المعنوية ومن خلفها، بينما يردد مئات المعتقلين بعضاً ممّا غنّاه في زمن آخر، فدليل آخر على مزيج مخيف من الانتهازية والاستسهال والتطبيل.

المساهمون