محرقة غزة والانكفاء الإنساني
دمار خلفته غارة إسرائيلية في غزة (8 يوليو/2014/أ.ف.ب)
يتحول الإعلام المعاصر، وكذا الكاميرا القادرة على رصد الحدث، واستباق سقوط القذيفة، إلى شاهد محايد، أو نصيرٍ لطرف نزاع على حساب آخر، وليس ضرورياً محاباة الإعلام الطرف الضعيف المتلقي حممَ الحقد الأسود، الموجه لاقتلاع شعب بأكمله من أراضيه، الشعب الفلسطيني مثلاً، والمضي في مشروع التصفية العنصرية وتحقيق مقولة الشعب المختار، الذي لا يقبل تنفس الهواء المحيط بشريّ آخر سواه.
نحن شهود عيان، بحكم الانتماء والتواصل الإعلامي، ونتواجد على بعد آلاف الكيلومترات عن الوطن الحاضن ما تبقى من فكر المقاومة وغريزة البقاء، وعلى الرغم من الفوسفور الأبيض والصواريخ العابرة لترسانة الإسمنت والحديد وأعمدة المباني المدنية، يصرّ الفلسطيني على مصارعة الفناء، بكلّ تشكّلاته الممكنة. يتحول الحلم إلى كابوس خلال ساعات معدودة، وتفشل الأم والزوجة والأخت في تحضير مائدة الإفطار، وقد تتحول، وفق قانون رفض الطبيعة للفراغ، إلى مأدبة بشرية، قوامها أهل البيت أو أشلاء الجار وعائلته.
نحن شهود عيان نرقب في أوضاع مريحة على الأريكة، في المقهى والمطعم والحديقة، نرقب مدى الخوف والهلع الذي يعايشه الأطفال والعجزة والمرضى في غزة، في مواجهة آلة الدمار الإسرائيلية المتقدمة، المدعومة من العالم الديمقراطي بأموال الضرائب الأميركية والأوروبية والكندية والأسترالية، وغيرها من الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي، الرافض لأبسط حقوق الإنسان، باعتبار الآخر دونيّاً، لا يستحق الرحمة والعدالة التوراتية.
حتى في المنظور الحضاري والوجداني، يحاول هذا الكيان جاهداً سلب انتمائنا وعشقنا وارتباطنا بتاريخ هذه الأرض، المرشحة لتكون وتبقى عاصمة للسلام البشري الإنساني. مثالاً وليس حصراً، مطالبة الكاتب الإسرائيلي، سامي ميخائيل، وهو من أصول عراقية، قبل سنوات، حذف عنوان رواية غسان كنفاني الشهيرة "عائد إلى حيفا" الصادرة عام 1969 من الأوساط الإعلامية والمواقع الأدبية الإسرائيلية المعنية، بعد أن تبين أن روايته "حمائم في ترافلغار" سرقة، في وضح النهار، لرواية كنفاني، حتى في أدقّ التفاصيل الصغيرة.
يعتبر سامي ميخائيل من أهم الكتاب المعاصرين، وهو في طريقه للحصول على جائزة نوبل للآداب. وفي محاولة لتبرير سطوه على معظم ما جاء في رواية كنفاني، قال إنه، أحياناً، ما يتأثر الإنسان بلحن ما لينطلق في كتابة موسيقى، والأمر سيان في كتابة الرواية، وأضاف إن عالم رواية "عائد إلى حيفا" رجوليّ، لهذا، جاء بطل روايته امرأة "أم"، وأسقط الحدث على الواقع الإسرائيلي، حيث أقدمت أم إسرائيلية على تبني طفل فلسطيني، في محاولة لدغدغة المشاعر الإنسانية، واستخدام حدث المحرقة في هذا الشأن، لتبرير القسوة والعنف، غير المسبوق الذي استخدمته الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل، حتى وقتنا هذا.
كما حاول ميخائيل الولوج إلى الوعي الفلسطيني، موضحاً أن الفلسطيني والإسرائيلي هما ضحيتان في أزمة الشرق الأوسط، وليس، كما جاء في أحداث رواية كنفاني، فالإسرائيلي بات ينافس المواطن الفلسطيني، ويزاحمه للحصول على جزء من المعاناة والألم ومخاض الدولة.
وقد امتدح سامي ميخائيل المواطن الفلسطيني، باعتباره حالة متميزة من الوعي والثقافة، في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا المديح تزامن مع التقليل من شأن العربي الآخر الذي يمارس حياة سلبية، ويقف على هامش الحياة. ولن يقف هذا المديح من دون المضيّ، أيضاً، بتنفيذ أدقّ تفاصيل المذبحة التالية، باستخدام الطائرات المقاتلة الحديثة من طراز إف 16، والقذائف الموجهة بالليزر، وغيرها من تقنيات الموت الباذخة. على أيّة حال، لكم ميخائيلكم ونوبله المتوقعة، ولنا كنفاني وشهادته وإبداعه وعطاءه المتميز.
ألِفنا الصمت العربي، هذه المرّة يأتي صاعقاً ومدنياً وليس فقط على الصعيد الرسمي، نتلقى الطعنات من كتاب وصحافيين في القاهرة، ومدن عربية أخرى، وكأنّ شيطنة حماس والمقاومة الفلسطينية فرض عين للاعتراف بديمقراطية متبني هذه المواقف.
لكن، بعيداً عن المشرق، وهواجس الخيانة المتأصلة، نقرأ موقف الفنان والممثل الأميركي، تايرس جيبسون، على صفحته في "فيسبوك" (هذا غير مقبول، هناك حرب قائمة ضدّ الشعب الفلسطيني البريء، حيث يتم قتل وقصف أطفال وعائلات بالقنابل، أنا لست مسيّساً، ولست طرفاً في النزاع هناك، لكنّي قلق بشأن الأهالي، أتمنى أن يلقي هذا الموقف مزيداً من الضوء على الأحداث الحقيقية الدائرة، موقفي بمثابة محاولة لإحياء الجهود من أجل السلام العالمي).
بعيداً عن السياسة، ألا يملك الأدباء والمثقفون الجرأة للتصريح بموقفهم، وتحميل إسرائيل تبعات هذه الجرائم؟ نتوقع عوضاً عن ذلك دعم كثيرين من دعاة التطبيع لتدريس منهج "الهولوكست" في الكتب التربوية، علماً أنّ إسرائيل قامت بتدريب وتأهيل بعثات خاصة من مدرسي أوروبا الشرقية، لتعليم مادة الهولوكست في المراحل التربوية المختلفة.
هناك سوء فهم مقصود لقلب الموازين والخلط بين مفهومي الضحية والجلاد، واعتبار محاولات الصمود والمواجهة خرقاً لمعاهدات السلام بين إسرائيل والدول العربية المجاورة وتنظيم حماس والسلطة الفلسطينية، أمّا الرحلات المكوكية العسكرية التي يقوم بها الكيان العنصري في المدن الفلسطينية، فيعتبر وفق مروجي السلام الأحاديّ الجانب، سياسة أمنية ضرورية لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
الأمن والسلام مصطلحان مرتبطان عضوياً، من يرجو أمناً واستقراراً عليه أن يحترم الآخر، ويمتنع عن تحطيم زجاج المنازل، فما بالك بتدمير الزجاج ودعامات المنزل، باختصار – المضي في ممارسة سياسة التدمير الكامل والمطلق. لا يمكن لمثل هكذا سياسة أن تحلم بالأمن والسلام، حتى إن استخدمت، من أجل ذلك، نصوصاً توراتية، وأفسحت المجال لطموح التوسع والغلبة والتعالي لمحو الآخر.
قبل عقود، لم تكن إسرائيل تتوقع أن تواجه مقاومة فلسطينية حقيقية، واليوم، نرى الكيان الفلسطيني المعاصر، بكلّ تواضعه، يقصف مواقع إسرائيلية، وينجح في قلب معادلة العنف والرعب، وليس بعيداً الوقت الذي سينقلب فيه السحر على الساحر. المقاومة الفلسطينية لا تحتاج طائرات مقاتلة بملايين الدولارات، ولا تحتاج سلاحاً نووياً متطوراً، كي تقلب موازنة الرعب، لأنّ إسرائيل راهنت طويلاً على حفظ الأمن لشعبها بشكلٍ مطلق، لا تقبل حتى بوصول رصاصة واحدة لكيانها.
لهذا، سارعت في بناء الجدار العازل، وتنفيذ مشروع القبة الحديدية لالتقاط الصواريخ القادمة من غزة، من دون تحقيق هذا الهدف، فالقذائف المتواضعة تتجاوز الحائط العازل، وتتمكن من مراوغة أجهزة القبة الحديدية، بكلفة متواضعة تتحدّى الأموال الطائلة والجهود الكبيرة التي توظّفها إسرائيل للوصول إلى الأمان المنشود والسكينة. لذا، سيبقى هذا الكيان عاجزاً عن تحقيق القيمة المطلقة للشعب المختار، على الرغم من تواطؤ وانكفاء إنسانيين واسعين.