محاولات أدلجة الحراك الجماهيري

محاولات أدلجة الحراك الجماهيري

18 يونيو 2015
+ الخط -
أعاد الحراك الجماهيري الواسع الذي عرف لاحقاً باسم "الربيع العربي" طرح إشكالية العلاقة بين المثقف والثورة، واختيار قطاع كبير من المثقفين العرب المهتمين بالشأن العام القفز على هذه الإشكالية، بإعلان الانحياز المطلق إلى حراك "الشعب"، وتحقير شأن النظريات والأفكار والرؤى النقدية، والدعوة إلى "التعلم" مباشرة من الفعل الجماهيري الحسي والملموس، وما حققه من "معجزات"، لا تقدر على تمثلها المفاهيم والأطر النظرية السائدة. حيث غدا المثقف بذلك ثورياً تابعاً لحركة الجمهور، ومعبراً صادقاً أميناً عنها. وكأن مزية المثقف لا تتعدى مجرد امتلاكه قدرات بلاغية وتعبيرية، تترجم أفعال الجماهير وإرادتها إلى صيغ لغوية وجمالية مؤدية دلالاتها.

واقع الحال أن تطورات الأحداث عكست هذا التصور في مخاض الثورات العربية ومساراتها الانتقالية، لكنه كان أكثر تجسداً في صورة المثقف الماركسي والمثقف الإسلامي الحركي والمثقف القومي العربي، ليضحي المثقف أسير متخيل مخصوص من الجماهير الثائرة، ويغدو خطابه عبارة مدح فعل ما عبر نعته بالثورية أو قدح فعل آخر، بنسبته إلى الثورة المضادة، بلغة تنحدر، أحياناً، إلى مستوى "السوقية".

أعادت إشكالية العلاقة بين المثقف والثورة بعد أحداث الربيع العربي صياغة مفهوم "المثقف الثوري"، أي المثقف الذي يتخذ موقفاً مناصراً لثورةٍ، قامت من أجل تغيير إيجابي ملموس، فالمثقف الثوري يحافظ على مسافة نقدية، ليس من النظام فحسب، بل من الثورة أيضاً، مع أن ممارسة النقد الثاني في ظرف ثوري مهمة أصعب معنوياً من نقد النظام الحاكم. وقد يتحول المثقف الثوري إلى "خبير" في خدمة الثورة، أو ناشط بين المثقفين، أو "إعلامي" في خدمتها.
وبذلك يتم فك التماهي الدلالي بين مفهومي "المثقف العضوي" و"المثقف الثوري"، وهو تماهٍ يستبطنه، بصورة واعية أو لاواعية، قطاع واسع من المثقفين العرب الذي يرون أنفسهم مثقفي الثورات العربية ولسان حال جماهيرها. إذ تظهر خطابات المثقفين العرب أن مضامين مفهوم المثقف العضوي (أي الاعتقاد بالالتحام العضوي بـ"قوى الثورة" في مواجهة "قوى الثورة المضادة") لا يمكن أن ينتج، عملياً وواقعياً، في السياقات العربية الراهنة، غير مثقفين مناصرين "للطائفة" الأيديولوجية التي ينتمون إليها، من منطلق التخيل بأن الأيديولوجيا التي يمتلكونها هي التعبير الحقيقي عن مطامح جماهير الشعب التي قامت بالثورة.

يتخيل "اليساري" الراديكالي أنه يملك أيديولوجيا المهمشين الذين قاموا بالثورة، ويرى من ثم أن وظيفته، بوصفه مثقفاً ملتحماً عضوياً بهذه الجماهير، تكمن في محاربة الأيديولوجيات الليبرالية والرجعية والظلامية. كما يتخيل "الإسلامي" أنه يملك أيديولوجيا "جماعة" المؤمنين، المعتزين بهويتهم العربية الإسلامية الذين قاموا بالثورة، ويرى، من ثم، أن وظيفته، بوصفه مثقفاً ملتحماً عضوياً بهذه الجماهير، محاربة الأيديولوجيات العلمانية والتغريبية.
انتزاع مفهوم "المثقف الثوري" من سياق مفهوم المثقف العضوي، ووصله بسياق مفهوم المثقف العمومي، كما يقترح ذلك باحثون في علم الاجتماع السياسي، يمثل إضافة نظرية، خصوصاً في الظرفية الراهنة للمراحل الانتقالية العربية الجارية. إذ يتخلص "المثقف" بذلك من ضيق الأيديولوجيات الجزئية وإكراهاتها، ويتيح له موقفه النقدي الارتقاء إلى مستوى "الفكرة الوطنية"، من حيث هو مستوى يتجاوز جميع صور الانتماء الجمعي الذي يتخذ طابعاً طائفياً. 

فكرة استحضار هذا المفهوم وهذه الرؤية من هذه الأيديولوجيات، غالباً ما تجعل من الديمقراطية نافية للدولة الحديثة، وتجعل التحول إليها صراعاً مجتمعياً نافياً لإمكانية التعايش، وتجعل التعددية في المجتمعين السياسي والمدني تعددية طوائف، نافية وحدة المجتمع. ما يفضي، لاحقاً، إلى الفوضى التي تمهد لاستبداد جديد، وهو ما يميط اللثام عنه منطق الصراع الهوياتي، عند شق من الإسلاميين والقوميين، ومنطق الصراع الطبقي عند اليسار الراديكالي الذي غالباً ما ينتهي إلى مستوى أيديولوجي أعمق من مستوى الاختلاف المرجعي بينها، بحكم أن هذه الأيديولوجيات تصل، من حيث لا تدري، إلى نفي المشروع الوطني، بوصفه صيرورة تشكل "الدولة الحديثة" أحد أهم أركانه.

يمكن أن تكون المفاهيم الأيديولوجية التي يصدر عنها الفاعلون السياسيون الأساسيون في المسارات الانتقالية العربية الجارية أصل الحراك الصراعي المدمر والمهدد بعودة الاستبداد في بعض بلدان هذه المسارات، أو بواقع فوضى وتفكك وانهيار شامل، قد يصل إليه بعضها الآخر (السيناريو الليبي)، على الرغم من أن الشعارات المعلنة والأهداف المقصودة عند هؤلاء الفاعلين هي الوفاق والثورة المحققة للديمقراطية والتنمية والوحدة (القومية أو الدينية).
هي مفاهيم مسبقة لا يزال مثقفونا يستبطنونها في مواجهة الحراك الجماهيري، وربما في محاولة لمواكبته أحياناً، وقيادته والتحكم فيه تارة أخرى، وما لم يتخلص منها المثقفون المحسوبون، تاريخياً وفكرياً، على تيارات فكرية – سياسية أكل الدهر عليها وشرب أحياناً، وتجاوزها الحراك الجماهيري نفسه تارة، ستظل المآلات التي يحوم حولها مستقبل الحراك العربي غامضاً ضبابياً، وصدامياً في معظم الحالات والأمثلة الراهنة.
58833448-D554-45B2-8F7D-DCDD63BC35E1
58833448-D554-45B2-8F7D-DCDD63BC35E1
هشام منور (فلسطين)
هشام منور (فلسطين)