محاكمة البشير وتلك العطايا

محاكمة البشير وتلك العطايا

02 سبتمبر 2019
+ الخط -
صحونا، نحن السودانيين، بعد ثلاثين عامًا، لنكتشف أن رجلاً يفتقر إلى أدنى مقومات الزعامة من امتلاكٍ لقدرٍ معقول من الشعور بالكرامة الوطنية والشرف وكبرياء النفس وعزّتها، هو من ظل يتحكّم في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في شؤوننا، طوال تلك السنوات الثلاثين الكالحة التي لم ير السودانيون ما هو أكثر سوءًا منها، في تاريخهم القريب. كان رأي معظم السودانيين سيئًا في الرئيس عمر البشير، ولكن لا أعتقد أن أحدًا منهم كان يظن أن الرجل بهذا السوء، وبهذه الضعة، التي ظهرت من خلال محاكمته الجارية الآن في الخرطوم. لم أعرف على كثرة ما عرفت من سير الرؤساء أن رئيسًا كان يتقبل العطايا المالية الشخصية، من رؤساء دول أخرى، فحتى الهدايا الرمزية التذكارية التي يتلقاها رؤساء الدول من رؤساء الدول الأخرى، توضع، عادةً، في فترينات عرض في القصور الرئاسية، أو في المتاحف، ولا يسمح للرؤساء بتملكّها بصورةٍ شخصية، وهذه من بديهيات السيادة الوطنية. أما أن يستلم رئيس دولة، من رئيس دولة أخرى، عطايا مالية، بملايين الدولارات، بعيدا عن بصر الدولة وسمعها، وهي التي يجلس على رأسها، فهذا ما لم نسمع به من قبل. الأكثر إيلامًا وإثارة للدهشة أن الرئيس البشير كان يتحدث عن هذه العطايا، في أثناء محاكمته، بعاديةٍ شديدة، بل، ويرى كونه لم يتصرّف فيها لمصلحته الشخصية، حسب زعمه، يمثل دفاعًا كافيًا لتبرئته، على الرغم من أنه لم يُطلع بنك السودان ولا وزارة المالية على هذه الأموال التي تلقاها، وإنما وضعها في بيته ومكتبه. بل لم يخجل أن 
يقول إن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، طلب منه ألا يذكر لأحدٍ أن هذه الأموال جاءت منه. ولم يخجل وهو يقول إنه كان يفضل أن تكون جلسات محاكمته سرّية، حتى لا ينفضح الأمير بن سلمان، فهو، وهو في هذا الوضع المهين، لا يزال حريصًا على ستر بن سلمان! البشير الذي ما وقف في لقاءٍ جماهيري، إلا ورقص، ولوّح بعصاه، وردد في زهوٍ أراجيز الإخوان المسلمين التي تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين من شاكلة: "في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء، ما لدنيا قد عملنا، نحن للدين فداء، فليعد للدين مجده، أو ترق من الدماء" لم يسعفه الدين فيمسك نفسه عن قبول الرشوة، ووضع نفسه في موضع اليد السفلى، وهو رأس البلاد. كما نسي قول النبي الكريم، حين طلب منه الأمير محمد بن سلمان ألا يطلع أحدا على أن المبلغ قد جاء منه، "الإثم ما حاك في صدرك وخشيتَ أن يطلع عليه الناس".
بدأت محاكمة الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، بجلسة أولى يوم 19 أغسطس/ آب. وتواصلت محاكمته، في جلسة ثانية يوم 24 أغسطس/ آب. أما الجلسة الثالثة فقد جرت يوم 31 أغسطس/ آب، وقد اعترف البشير، في ردّه، على سؤالٍ وجهه إليه القاضي عن مصدر 
الأموال التي وُجدت في حوزته، بأنه تلقاها من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان. ذكر أن مدير مكتبه، حاتم حسن بخيت، تلقى اتصالاً من مدير مكتب الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، فحواه أن لدى الأمير رسالة سوف تصل إليه بطائرة خاصة. وقد كانت الرسالة 25 مليون دولار أميركي. ولأن التهمة تقع تحت طائلة قانون الثراء الحرام، والتعامل بالنقد الأجنبي بطريقة غير مشروعة، ذكر البشير أنه لم يستخدم الأموال في أغراض خاصة. أما عن سبب عدم كشفه المبلغ لبنك السودان، أو وزارة المالية، فقد ذكر أن ذلك يقتضي أن يكشف عن مصدر المبلغ، وهو أمرٌ كان عليه تجنبه، لأن محمد بن سلمان طلب منه ألا يظهر اسمه مقترنًا بالمبلغ. وأضاف البشير أنه تبرع بالمبلغ لجهات وأفراد، كما دعم به شركاتٍ تعمل في استيراد القمح. ومن الجهات التي ذكرها البشير قناة طيبة الفضائية التي يترأس مجلس إدارتها الداعية عبد الحي يوسف، المعروف بدعمه المستمر للرئيس المخلوع. وكان نصيب القناة خمسة ملايين دولار. كما تسلمت جامعة أفريقيا العالمية أربعة ملايين دولار. أما مستشفى السلاح الطبي فقد تسلم، وفقا لما قاله البشير، 2.250 مليون دولار. وذكر البشير أن هناك مبالغ ذهبت إلى أفراد. وفي الموضوع نفسه، قال محققٌ، في وقتٍ سابق، للمحكمة إن البشير تلقى 90 مليون دولار نقدًا من أشخاص من العائلة المالكة السعودية.
كل ما تلقاه البشير من أموال، سواءً من السعودية، أو دولة الإمارات، لم يكن سوى رشىً شخصية، نظير إهراق الدم السوداني في حرب اليمن، بلا أي مسوّغ. ولأمرٍ ما، لم يُقدَّم الرئيس المخلوع عمر البشير إلى المحاكمة بتهمة خرق الدستور وتقويض النظام الديمقراطي. ولم يُقدم، بتهمة إزهاق ملايين الأرواح في حروب عبثية في جنوب السودان، ودارفور، 
وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. كما لم يقدّم، بتهم قتل المتظاهرين في 2013 و2019، وبتهم التعذيب والإخفاء القسري، والاغتصاب، وإنما جرى تقديمه فقط بتهمة التعامل غير المشروع في النقد الأجنبي، فكانت هذه الفضيحة المجلجلة، له ولمانحيه.
بالإضافة إلى شراء الدم السوداني وإراقته على أرض اليمن في حربٍ ليس للسودانيين فيها ناقة ولا جمل، قُدِّمت هذه الرشى، أيضًا، للاستحواذ على موارد البلاد، من أراضٍ ومعادنٍ، وموانئ، وغيرها. ولذلك ينبغي أن تجري محاكمة البشير بتهمة الخيانة العظمى، فما كان يقوم به يدخل في باب العمالة، والإضرار الفظيع بالسيادة الوطنية، فهو ومدير مكتبه السابق، طه عثمان الحسين كانا صنيعتين لدولتين أجنبيتين مزروعتين في جسد الدولة السودانية لخدمة أهداف أجنبية. وقد ظلا يقرّران في الشؤون السودانية بما يخدم مصالح الأطراف الخارجية، وليس مصالح الدولة السودانية. من غرائب الحوادث قبل سقوطه، بفترةٍ قصيرة، أن البشير عزل طه الحسين، ومنعه من السفر خارج البلاد، فتدخلت السعودية وضغطت على البشير الذي فك عنه حظر السفر. سافر طه عثمان الحسين، وهو مدير مكاتب الرئيس السوداني، الملم بكل أسرار الدولة السودانية، لتعلنه السعودية، بعد أيام، مستشارًا في البلاط الملكي السعودي للشؤون الأفريقية. بل ذهب البشير بعد ذلك، في زيارة إلى السعودية، وقابل الفريق طه عثمان الحسين هناك. شكرًا لشباب السودان الذين غسلوا عنا هذا العار. وسوف تسفر الأيام المقبلة عن فسادٍ وخياناتٍ للبلد وشعبه تشيب منها الرؤوس.