محاذير ومخاوف في الطريق إلى إدانة إسرائيل

محاذير ومخاوف في الطريق إلى إدانة إسرائيل

26 يناير 2020
الاعتداءات الإسرائيلية خلفت عشرات المصابين (توماس كوكس/ فرانس برس)
+ الخط -
عملت السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة على استثمار كافة المجالات السلمية والدبلوماسية في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد أن تنصلت حكوماته المتعاقبة من التزاماتها نحو الفلسطينيين المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات وتفاهمات، ورفضها استئناف المفاوضات مع السلطة، وكان للسلطة الفلسطينية تحركات مهمة في الميدان السياسي والدبلوماسي في المجتمع الدولي، على رأس تلك التحركات انضمامها إلى عدد من المؤسسات الدولية، والتي من أهمها محكمة الجنايات الدولية حيث استطاعت السلطة الحصول على عضوية المحكمة، وتقدمت بشكل رسمي بإحالة ملف للمحكمة للنظر في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد الفلسطينيين، فقد نجحت في أن تنقل المعركة والصراع بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي إلى المحافل الدولية، والمؤسسات ذات النفوذ الدولي، كاسرة بذلك الجمود الحاصل في المشهد الفلسطيني الإسرائيلي، وخارجة من العزلة التي فرضتها عليها إسرائيل ومن التفرد الأميركي في ما يخص القضية والشأن الفلسطيني.

المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا أعلنت في 20 ديسمبر الماضي أنها تعتزم فتح تحقيق شامل في احتمال ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وذلك بعد أن تم الانتهاء من الدراسة الأولية التي بدأت قبل نحو خمس سنوات، وتضمن الإعلان الطلب من الدائرة التمهيدية التأكد من ولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينية، وتحديد المناطق التي سيشملها التحقيق، وفي ذات السياق قالت بنسودا إنها مقتنعة بوجود جرائم حرب قد ارتُكبت وتُرتكب في الضفة والقطاع، وإنها ستسمح للمجني عليهم والدول المعنية والأطراف الأخرى بالمشاركة في إجراءات إصدار قرار الدائرة التمهيدية.
قرار بنسودا كان واحداً من الأحداث النادرة التي أحدثت ضجة كبيرة في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، ففي الوقت الذي استقبل فيه الفلسطينيون بكافة أطيافهم الحزبية ومستوياتهم السياسية القرار بالترحيب والاستبشار، ووصفوه بأنه يوم عظيم وانحاز للعدالة والحقيقة، استقبل الإسرائيليون أيضاً بكافة ألوانهم السياسية والحزبية القرار بغضب جم، ووصفوه بأنه يوم مظلم للحقيقة والعدالة ويهدف لنزع الشرعية عن إسرائيل.

يحق للفلسطينيين أن يعلنوا فرحتهم وابتهاجهم بهذا القرار، لما يعانونه من تصرفات الاحتلال الإسرائيلي القمعية واللاإنسانية المرتكبة بحقهم في كافة الجوانب المتعلقة بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، لكن هذا الإعلان يحمل رغم التفاؤل به جملة من المحاذير التي يجب على الفلسطينيين التنبه لها، حتى تسير الأمور على ما يرام ويصلوا إلى ما تحقيق مآربهم من تقديم الشكوى للمحكمة، ومن أهم هذه المحاذير والمخاوف احتمالية تعرض قضاة الدائرة التمهيدية لضغوطات السياسية من إسرائيل وحلفائها، لحثهم على عرقلة التحقيقات أو الخروج بتوصيات ركيكة غير ذات جدوى، وقد تلجأ إسرائيل، وبمساعدة مختصين منحازين لها في المحكمة وخارجها، إلى إثارة ملفات تعيق البدء في التحقيق، مثل التشكيك في اعتبار فلسطين دولة، أو في صعوبة تحديد أراضيها، واعتبار أن الحدود متنازع عليها، أو إثارة خلاف قانوني آخر حول تحديد الجرائم المرتكبة والتي يمكن وصفها بأنها جرائم حرب لغايات مباشرة التحقيق من قبل الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية، ومن المحتمل أيضاً أن تحاول إسرائيل سحب البساط من تحت المحكمة الدولية، من خلال اللجوء إلى محاكمات صورية تدّعي خلالها البدء بمحاكمة قادتها وضباط جيشها، إذ يعتبر قضاء المحكمة تكميلياً للقضاء الوطني، حيث لا يمكن للجنائية الدولية محاكمة أي أشخاص يحاكمون أو حوكموا في بلادهم، وبذلك تجرد إسرائيل المحكمة من ولايتها.

كما أن القرار يمنح إسرائيل الحق في رفع دعوى قضائية ضد النشطاء الفلسطينيين العسكريين منهم والسياسيين في المقاومة الفلسطينية باعتبارهم مسؤولين عن كافة العمليات الفدائية في تل أبيب والداخل الفلسطيني المحتل، وكذلك ضد مطلقي الصواريخ والقذائف الصاروخية على البلدات والتجمعات المدنية الإسرائيلية، مما يمكن إسرائيل من طلب تعويضات بجبر الضرر عن ضحاياها في كافة الأعمال الفلسطينية التي تسببت في مقتل إسرائيليين، وطلب تعويض بدل الخسائر المادية والاقتصادية الاسرائيلية، والأمر الأخطر في هذه الجزئية يتعلق بتقييد عمل المقاومة الفلسطينية وتحجيم دورها في أي رد قادم على جرائم الاحتلال وهجماته ضد الشعب الفلسطيني.

وقد تعمل إسرائيل على تعطيل عمل المحكمة من خلال الضغوط السياسية أو مجلس الأمن، حيث خول نظام روما مجلس الأمن دوراً سلبياً يستطيع من خلاله أن يوقف عمل المحكمة ويُقرر تأجيل التحقيق أو المحاكمة، لمدة 12 شهراً قابلة للتمديد، وليس من المستبعد أن تقوم الولايات المتحدة بهذا الدور دعماً لإسرائيل، فمواقفها معروفة مسبقاً، وتكفي الإشارة هنا إلى تصريح مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، الذي قال فيه "نعارض بحزم هذا الأمر وأي تحرك آخر يسعى لاستهداف إسرائيل بطريقة غير منصفة"، مضيفاً أننا "لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها محكمة الجنائية الدولية".

هناك مخاوف أخرى تتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية، من قبيل قيامها بالتراجع عن إدانة إسرائيل، وسحب الإحالة الفلسطينية المقدمة للمحكمة، والتنازل عنها، من باب المناورة السياسية، واستغلاله كخطوة لإرغام الحكومة الإسرائيلية على العودة لمسار التفاوض، حال بدء المحكمة إجراءات التحقيق، أو بسبب تعرضها إلى ضغوطات متوقعة من قبل الدول الحليفة لإسرائيل، وقد سحبت السلطة الفلسطينية سابقاً تقرير "غولدستون" من مجلس حقوق الإنسان، الذي يدين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في عدوانها على غزة في عام 2009، عدا سحبها مشروع قرار يدين إسرائيل في اليونسكو، وكانت السلطة قد تراجعت في اللحظات الأخيرة عن إدانة إسرائيل أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم منتصف عام 2015.

قرار المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية وضع الفلسطينيين أمام تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة، تتطلب العمل الجاد والمتخصص، وحشد كل الأدوات القانونية والدبلوماسية اللازمة من أجل البناء على القرار، فيجب تجهيز وترتيب كل الأوراق والدلائل والوسائط والوثائق والملفات اللازمة من أجل إثبات الادعاء الفلسطيني، وكذلك التعاون مع الدائرة التمهيدية في المحكمة، من أجل إصدار قرار سريع يضمن عدم إهمال ملف التحقيق، ومتابعة الإجراءات مع المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فالعبرة ليست في القرار بحد ذاته وليس هو الغاية إنما الغاية هي إصدار وتطبيق الإدانات على أرض الواقع وملاحقة المسؤولين الإسرائيليين مرتكبي الجرائم بحق الفلسطينيين، وفضح دولة الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية كافة.