مجهولو النسب... ورود تحتاج إلى تربة خصبة

مجهولو النسب... ورود تحتاج إلى تربة خصبة

29 يناير 2020
+ الخط -
عندما بدأت أتحدث عن احتضان مجهول النسب بادرني أحدهم بآيات عن تحريمه، وذلك لاختلاط مفهوم الاحتضان بمفهوم التبني المحرم في الدين الإسلامي. إن الاحتضان لا يعني تغيير اسم الطفل وإثبات نسبه لأب غير أبيه البيولوجي، الاحتضان هو أن تعطي طفلاً حرم من العائلة بغير ذنب حضناً دافئاً يعوضه عن خطيئة لا شأن له فيها، أو ظرف قهري أخذ منه والديه، فمن منا استيقظ على هذه الدنيا واختار والديه ونسبه؟

فتح عينيه وجد نفسه إنسان يملك ضحكة جميلة وعينين براقتين براقة تشع بالأمل، في بيئة لا يعرف لماذا ترفضه؟ إنه يمد ذراعيه لكم ليحظى بضمة مثل التي تمنحونها لأطفال تحبونهم، لماذا تكسرون ذراعيه وتجرحون صدره المفتوح لكم، ذات يوم كان نطفة وعندما خرج للحياة أول ألم حظي به هو انتزاعه من حضن أم متلهفة لرؤيته، وثاني ألم غياب أب يحلم به كسند يفخر به، ويشدّ عضده، إن هذين ألمين سيرافقانه لآخر يوم في حياته، ولا يدري معنى الألم إلا صاحبه، ألم كأوجاع مرض عضال بغير دواء، مهما حاولت مواساته فلن يسكن الألم، لأننا لا نحتويه، ونخاف منه ومن جيناته، وكأن جيناته ستكبر وتتحول لوحش مجرم، ما دخل الجينات؟ إننا نسمع عن أبناء يسيئون لآبائهم بأفظع الإهانات والذل وهم من صلبهم، إنها التربية والاحتواء ما يجعلان منهم أشخاصا صالحين لا دخل لهم بما كان عليه آباؤهم البيولوجيون الذين تخلوا عنهم قهراً أو تقصيراً.

مجهول النسب يعاقب بيننا كأنه الخطيئة الوحيدة في مجتمع مثالي، ولا المجتمع مثالي ولا هو الخطيئة الوحيدة، نتأله بنسبنا ونستقوي عليه، وإذا ما أخذ أحدهم حقاً منه، سكت لأنه ليس لديه عائلة تفزع له، حتى في مواقع التواصل الاجتماعي لا يعبر عن نفسه بصراحة، فما من بالغ مجهول النسب يقوى على الإفصاح بذلك.


ما الفرق بين مجهول النسب واليتيم؟ صادفت عائلة احتضنت طفلتين، في كل مناسبة يقول الوالدان إنهما يعرفان نسبهما، لا يتركان مناسبة ولا فرصة حتى يرددان أنهما معروفتا النسب، ترى ما الفرق؟ إنني أخجل حتى من سؤاله ما هو الغرض من توضيحك أنك تعرف نسبهما، كلاهما يتيم، فمجهول النسب أيضاً يتيم الأبوين وفقدانه أكبر، لا ندري ظروف والديه، من الممكن أن تكون قست عليهما الحياة وجعلتهما يتخليان عن تلك الابتسامات والمناغاة والبراءة الرضيعة.

أول ما علمنا إياه أهلنا أصلنا ونسبنا، وأول مشاكل دخلنا بها في المدرسة كانت لأجل النسب والأصل، ما الذي جنيناه؟ وبماذا تفوقنا عليهم، ابتعدوا عنا وأخذو جانبا لهم، في النهاية كبرنا ودرسنا ونجحنا معا لا فرق بيننا وبينهم، في كثير من المرات لا يستوعب المعلمون حساسية الاسم فيبادرونهم بنظرات محرجة، إذا كان الطفل يعرف أنه مجهول النسب تضيع عيناه بين الطلاب، وإذا لم يكن يعلم ترى نظرة استفهام على وجهه، هو ليس ابن حرام، ابن الحرام من ساءت أخلاقه وأذى الناس، أما هم أحباب الله وهم الإنسان خليفة الله في الأرض ليعمرها ويبنيها، هم براعم صغيرة رقيقة الشفاه تتوه باحثة عن حضن يغذيها، فتفوح رائحة الحب والحنان شذية كبراعم نوار الليمون أول لياليها تنعش القلب، أنعشوا قلوبكم بقبلاتهم وآمالهم، اتركوا عيونكم تراقب نظراتهم وسيسعدكم ما ترونه فيها من الحب والتعلق، يتعلمون معكم أبجديتكم ويرثون أخلاقكم وعاداتكم وجميع ما ترغبون في تعليمهم إياه، إنهم أوراق بيضاء اكتبوا عليها ما تحبون، يولد مجهول النسب بكسر في القلب يكبر بسنوات عمره، فاجبروا كسر قلبه.

قبل أن تفكر في الاحتضان اسأل نفسك هل تستطيع القيام بمسؤوليته وتربيته وجبر قلبه؟ هو ليس لعبة أو دمية تحتضنها لفترة ثم تعيدها لدار الرعاية، فيتعلق بك ويشعر بدفء العائلة ثم تتركه وكأنه وسيلة لتسليتك، يشتاق لك وتختار غربتك عنه، فكر في قدراتك النفسية والجسدية والمادية ووعيك أن هذا الطفل مجهول النسب سيصبح ابنك وإن لم يكن من نفس جيناتك ودمك هو ابنك الذي يحمل أخلاقك وتربيتك وعاداتك وتقاليدك وفكرك، وسيكون عملا صالحا بعد مماتك يمتد لأجيال.

استشر المختصين وإذا ما صادفك إشكال ديني اسأل دار الإفتاء، احتضان طفل مجهول النسب هو أن تهب حياة له وتحيي روحه، كن له بعد الله سندا وسترى البركة والخير يملأ بيتك وعمرك.

في الأردن توجد شروط للاحتضان وهي أن تكون الأسرة مسلمة، وغير قادرة على الإنجاب، وذات دخل لا يقل عن (250) ديناراً، وعمر الزوج بين (35 - 55) عاماً، وعمر الزوجة بين (30 - 50) عاماً، وأن يقيم الزوجان بمنزل مشترك، ومضى على زواجهما مدة لا تقل عن خمس سنوات، وألا يقل عمر الطفل المنوي احتضانه عن خمس سنوات أيضاً، وأن يكون المستوى الاجتماعي والبيئي والثقافي لكلا الزوجين لائقاً وتتسم العلاقة بينهما بالمودة، وأن توفر الأسرة للطفل كافة أشكال الرعاية.

مجهولو النسب ورود تحتاج إلى تربتكم وسقايتكم فلا تبخلوا عليهم.

دلالات

A70A6B05-880A-46F3-93C3-09859D5CFC65
إيناس عبد الفتاح
صيدلانية كاتبة مقالات وقصص على مواقع التواصل الاجتماعي، نرتقي بالفكر ونكتب لنصل إلى العقول وشيء من العاطفة