متغيرات مواقف دول "جوار ليبيا"..
بدأت أعمال الاجتماع الوزاري الخامس لدول جوار ليبيا، في سياق سلسلة اجتماعات لمناقشة التطورات السياسية في ليبيا، حيث تسعى إلى وضع سياسات تتصدى لثلاث ملفات، هي؛ دعم الحكومة والمؤسّسات الليبية وبحث القضايا الأمنية المشتركة بين دول جوار ليبيا، واعتماد مبادرة للتحرّك الجماعي، لإرساء حوار وطني ليبي، واستكمال تحقيق العدالة الانتقالية.
وقد بدأت الاجتماعات في الجزائر يومي 27 و28 مايو/أيار 2014، على هامش المؤتمر الوزاري السابع عشر لدول عدم الانحياز، وعقد الاجتماع الثاني في أثناء اجتماع الاتحاد الإفريقي في مالابو، يومي 26 و27 يونيو/حزيران، وكان الثالث في الحمامات في تونس 14 يوليو/تموز، والرابع في القاهرة في 25 أغسطس/آب.
ويلاحظ أن تكرار انعقاد الاجتماعات يتلاقى مع التدهور السريع للأزمة السياسية والأمنية في ليبيا، غير أن غياب إطار لدورية الاجتماعات يمكن أن يؤدي إلى اتساع الفترة الزمنية حتى انعقاد الاجتماع السادس، خصوصاً مع ترك تحديد موعده للتشاور بين وزراء الخارجية، وفقاً للتطورات السياسية.
ويشكل البيان الختامي لاجتماع تونس مرجعية تأسيسية، باعتباره أول بيان للمجموعة، وبالتالي، فإن ترتيبه مهام ودور مجموعة "دول الجوار" يعكس أولويات اهتمامها، ووفقاً لبيان "تونس"، كان المبدأ الأول من الأولويات متجها نحو إعادة بناء الدولة، وتعزيز الأطر السلمية. وتمثل المبدأ الثاني في بذل جهود مشتركة لمكافحة الإرهاب، كتوجه سياسي من دون توجيه اتهام لأي من الأطراف الليبية، وهو ما يتسق مع الصياغات التمهيدية لبياني القاهرة والخرطوم، ففي اجتماع 25 أغسطس/آب، اعتبرت دول الجوار أن من مهامها "حشد الدعم للمؤسسات الليبية الشرعية"، واعتبرت مجلس النواب والهيئة التأسيسية هي السلطات الشرعية.
وكان المبدأ الثالث في اجتماعات "جوار ليبيا" هو الالتزام بوحدة ليبيا وسلامة أراضيها بين الاجتماعات الثلاث الأخيرة، وهو إدراك يتصدى للتطلعات الانفصالية، وثمة اعتقاد بأن مسالة وحدة ليبيا استحوذت على مناقشات إقليمية ودولية كثيرة، بشكل يقلص فرص المطالبة بالانفصال، سواء بسسب تعقيدات التركيبة الاجتماعية والجهوية في ليبيا، أو لعدم توفر الظروف الإقليمية والدولية، لظهور دولة جديدة في شمال إفريقيا.
وإذا كانت مسألة وحدة ليبيا تمثل قاسماً مشتركاً بين بلدان كثيرة، فقد حدث اختلاف بشأن الموقف تجاه التطورات السياسية، فكان من الملاحظ وجود تباين بين اجتماع القاهرة واجتماعي تونس والسودان، فبينما اتجه بيان القاهرة إلى الاستغراق في الإجراءات، اتجه بيانا تونس والسودان إلى تقرير مبادئ تناول الأزمة في ليبيا، وفق منهج يؤدي إلى تعزيز الحل السياسي الذي يحفظ وحدة ليبيا واستقرارها.
تراجع رغبة التدخل
وبينما ربط اجتماع الخرطوم وقف العمليات المسلحة لتهيئة المناخ للحوار السياسي، فإن اجتماع القاهرة انخرط في ترتيب إجراءات أمنية، تستهدف الجماعات التي صنفها بـأنها "غير الشرعية"، وهي سياسة لا تتباعد مع التمهيد للتفاوض، أو التهدئة، فضلاً عن أنها تضع معوقاتٍ كثيرة أمام التفكير في أفق سياسي سلمي.
وعلى الرغم من أن البيان الختامي لاجتماع 25 أغسطس أكد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لليبيا، والحفاظ على استقلالها السياسي، فإنه تضمن، في ثناياه، مبررات للتدخل تحت ذرائع محاربة الإرهاب، فالفكرة التي وردت في البيان اتجهت فقط إلى تمكين الدولة الليبية من استعادة وبسط سلطتها وسيادتها على كامل التراب الليبي، وفق إجراءات يكون من بينها استخدام السلاح لوقف نشاط الجماعات المسلحة، والتصدي للإرهاب والعنف، وهي توجهات تسعى إلى إيجاد مبررات التدخل العسكري، تحت ادعاء مساندة الحكومة الشرعية.
وقد جاءت مقررات اجتماع القاهرة في سياق احتدام الصراع المسلح في ليبيا، وفي ظل تطلعات باقتراب عملية "الكرامة" من تحقيق انتصار سياسي وعسكري، وهو ما يمكن تفسيره بمجموعتين من العوامل؛ داخلية في ليبيا وأخرى إقليمية ودولية. على المستوى الداخلي، ساهم تشكيل مجلس النواب في طبرق في منح دفعة قوية لعملية "الكرامة" ومساعيها لأجل احتواء المؤسسات الليبية والسيطرة عليها. أما على المستوى الخارجي، فقد زادت عوامل القلق لدى أطراف إقليمية من تنامي عملية "فجر ليبيا"، وسيطرتها على مناطق واسعة.
يصعب القول بوجود علاقة مباشرة بين الموقف المصري والصيغة النهائية لبيان القاهرة، وذلك على الرغم من التقارب الواضح مع المجموعات الموالية لخليفة حفتر، واعتبارها القوة العسكرية الشرعية، امتداداً لمجلس النواب والحكومة. ولذلك، ترى أن استثناءها من حظر السلاح، أو دعمها دبلوماسياً، عمل قانوني. وهو موقف يتلاقى مع أولويات اجتماع القاهرة، والتي اتجهت، بشكل واضح، إلى تجريد "فجر ليبيا" من عناصر قوتها، حيث ركزت الإجراءات الواردة في البيان الختامي ليس فقط على الوقف الفوري لكل العمليات المسلحة، لكنها كانت أكثر اهتماماً بما أطلق عليه "تنازل جميع الميليشيات والعناصر المسلحة...." عن السلاح في إطار ترتيبات إقليمية، وإجراءات بناء الثقة. وإلى جانب رؤيته لنزع السلاح، اتجه اجتماع القاهرة إلى فرض رقابة خارجية على "تزويد الأطراف غير الشرعية بالسلاح بجميع أنواعه"، وتعزيز المراقبة على كل المنافذ، ومساعدة الحكومة في ضبط الحدود.
وكان من الملاحظ أن اجتماع القاهرة توسع في تبني إجراءات للسيطرة على ورود السلاح لمكونات عملية "فجر ليييا"، لكن فاعلية هذه الإجراءات كانت قليلة الجدوي، خصوصاً مع تزايد المناطق التي تدور فيها المعارك، ووفرة السلاح لدى كل الأطراف في ليبيا، لا سيما حصول أنصار "الكرامة" على أسلحة حديثة، وأكثر تطوراً. ولكنه، على مستوى اجتماع الخرطوم، لم تكن مسألة تسليم السلاح أولوية لدى "دول الجوار"، لكنها اهتمت بمطالبة كل الأطراف بالوقف الفوري لإطلاق النار، فيما شكلت الخلفية الأمنية والعسكرية محور الاجتماع الرابع في القاهرة، حيث ركزت بنوده السبعة على الإجراءات الخاصة بنزع السلاح، والرقابة على تحركات من وصفهم بالتنظيمات غير الشرعية، ما يكشف عن خلل في التناسق الداخلي للبيان الختامي، ويشكك في إجراءات بناء الثقة التي وضعها لتسليم السلاح.
الحكومة الشرعية
وقد شكل تعريف الحكومة الشرعية في ليبيا نقطة خلافية بين دول الجوار، فبينما اعترفت مصر، صراحة، بحكومة "طبرق"، فإن مواقف الدول الأخرى كانت أقرب للتحفظ عن إعلان موقف قانوني أو سياسي، وكان بعضها لا يرى مصلحة في الانحياز لأي من أطراف الصراع.
وقد اتجهت مواقف مصر، في الاجتماعات الثلاثة الأخيرة، إلى التركيز على استبعاد ما اعتبرته ميليشيات مسلحة من الحوار السياسي، من دون تعريف واضح للمكونات والديناميات المسلحة في ليبيا، ويبدو أن السياسة المصرية استندت إلى وجود برلمان طبرق أساساً لتصنيف مكونات "فجر ليبيا"، ميليشيات غير شرعية، فيما تعتبر المسلحين الموالين لخليفة حفتر جزءاً من سلطة الدولة، ما يعبر عن حالة من التحيز في ظل تفاقم النزاع القانوني حول شرعية استمرار مجلس النواب.
وقد انعقد اجتماع الخرطوم، في ظروف محتلفة، كان أهمها تزايد النزاع حول مصير مجلس النواب وظهور المؤتمر الوطني طرفاً في الجدل السياسي. وهنا، تبدو أهمية موقف دول الجوار ودلالاته، في النظر إلى الأطراف الليبية، وتحديد مستقر الشرعية. وكان ملاحظاً أنه على الرغم من توجيه الدعوة لحكومتي ليبيا للمشاركة في اجتماع الخرطوم، فإن الدعوة وجهت لوزير خارجية حكومة "طبرق"، بصفته الممثل الرسمي للدولة، وهو قرار يستند لموقف الأمم المتحدة المؤيد لاستمرار حكومة عبد الله الثني، باعتبارها منبثقة من مجلس النواب، لكنه وفق بيان الخرطوم (البندان 3 و4) وصفت دول الجوار حكومة طرابلس ومؤيديها بـ " أطراف وفعاليات ليبية أخرى".
وهنا، يمكن القول إن موقف دول الجوار تجاه الأزمة الليبية يشهد نقلة نوعية في التناول الإقليمي للأزمة السياسية في ليبيا، وبشكل يقترب من الاعتراف بتعدد الأطراف المعنية بالحل السلمي في ليبيا، وتنوع مطالبها، خصوصاً في النزاع المتعدد الأبعاد؛ السياسية والقانونية والعسكرية، ويبدو هذا الأمر ضرورياً مع وجود آلية للتعامل مع الحكومة الليبية، ما يعتبر تخلياً عن العوامل المغذية لاستمرار الصراع، وتجاهل الواقع السياسي، لعل أهمها التوسع في استبعاد كيانات سياسية، تحت دعوى تصنيفها إرهابية، وبشكل يزيد من معوقات الاستقرار، ويحول دون التهدئة.
وبينما رفض اجتماع القاهرة مشاركة المسلحين غير الشرعيين (فجر ليبيا) في الحوار الوطني، حدث تطور في لغة الخطاب السياسي التي تبناها بيان الخرطوم، تفيد التخلي عن الميول التدخلية والاستبعادية، والانتقال إلى دور المجموعة وسيطاً بين الأطراف الليبية، حيث حدث تغير في تعريف الأطراف التي يمكنها المشاركة في الحوار الوطني، ليتيح فرصة لكل الأطراف التي تقبل بالحوار خياراً استراتيجياً في المفاوضات، وكان اهتمام البيان الختامي منصباً على تعزيز فرص الحوار، وتهيئة البيئة الإقليمية لنجاح الجولة الثانية لمفاوضات غدامس (9 ديسمبر/كانون أول 2014) مع فتح فرصة لإعادة تشكيل وفود التفاوض، لتستوعب التغيرات التي يشهدها الواقع السياسي في ليبيا.
وهناك جانب آخر، يفسر تراجع أهمية المطالبة بالتدخل الدولي، والتوجه نحو الحوار السياسي، حيث يوجد اختلاف في مواقف دول الجوار على كيفية معالجة الأزمة الليبية، فبينما كانت مصر تميل إلى التدخل العسكري، كانت الجزائر ثم تونس والسودان أكثر وضوحاً في رفض التدخل الخارجي. وأدى التباين في المواقف إلى حدوث انتقال نحو تفضيل الحلول السلمية، وفتح المشاركة لكل الأطراف. ثم صارت فكرة التدخل الخارجي أقل قبولاً في الفترة الحالية، ما انعكس في البيان الختامي لاجتماع الخرطوم، ما يزيد الاحتمالات بأن الأوضاع الحالية تمهد المناخ السياسي لتفعيل مبادرة الجزائر.