متحف الثقافة

متحف الثقافة

17 ابريل 2017
(متحف الثقافة في ميلانو)
+ الخط -

آخر ما ابتكره الإيطاليون، شعب البحّارة والشعراء والفنانين، كما يحلو لهم تسمية أنفسهم، هو متحف الثقافة. وليس من المستغرب أن يتساءل المرء وهو يقرأ هذا الخبر، ما الذي ألمّ بالثقافة لتنتهي حبيسة بين جدران المتاحف أسوة بالمقتنيات الأثرية.

أما اختيار المكان، فمصنع سابق ذائع الصيت لصناعة القاطرات في ميلانو، يدفع المرء للوهلة الأولى إلى اتخاذ موقف ما، وخاصة عندما يلاحظ ببعض الدهشة أن هنالك معرضاً عن الديناصورات – "عمالقة من الأرجنتين"، وفي القاعة المقابلة تماماً معرضاً للوحات ومخطوطات الفنان الروسي الشهير فاسيلي كاندينسكي – "الفارس التائه".

إلا أنه عندما يرى أسراب الأطفال وهم يتنقّلون بمرح من قاعة لأخرى بصحبة مُدرّسيهم، سيدرك حتماً أن الثقافة أصبحت من حق الجميع مثل الماء، والمسارح والمكتبات ودور السينما هي بمثابة أنابيب تنقله إلى كل فرد.

وأهم ما تَعَلّمه إنساننا المعاصر أنه عندما يدخل صرحاً كهذا، لا يتوجب عليه الانحناء. وهي، أي الثقافة، الميراث الوحيد عندما يتمّ توزيعه بين الجميع، يزداد بدلاً من أن يقلّ، كما يجزم هانز جورج غادامير.

والملفت للنظر، من خلال تجارب كثير من الكتّاب والمفكرين، أن الثقافة كسبت فوق كل شيء من تلك الكتب التي تسببت في إفلاس أصحابها وفي خسائر كبيرة للناشرين. وبغض النظر عن ماهية ذلك الموقف والفائدة التي يمكن أن تُرجى منه، البعض ممّن تكلّمت معهم أثناء أمسية قصيرة في إحدى قاعات المتحف للحديث عن واقع أدب المهجر الإيطالي وتوجهات الجيل الثاني من الكتّاب الذيم ينحدرون من أصول أجنبية ويكتبون باللغة الإيطالية، أسهبوا قائلين إن الغاية من هذا المشروع هو دفن ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة لإفساح المجال أخيراً أمام ثقافة أصبحت مهيمنة دون اعتراف رسمي يبرزها إلى الوجود.

والثقافة المقصودة لا يمكن استشفافها أو حتى تعميدها بأي اسم، لأنها - حسب أقوالهم - تساير الحاضر، ولكنها تعيش منذ أمد في حضن مستقبل لم نلج أبوابه بعد، رغم الكمية الهائلة من أدوات ووسائل التكنولوجيا التي نملكها بين أيدينا.

المتشائمون جداً يلقون باللوم على السرعة الهائلة التي ميّزت الحقب الأخيرة من عصرنا بسبب التطوّر العلمي غير المسبوق على كافة الأصعدة، وعدم امتلاكنا القدرة الكافية لإدراك ماهية كل هذه الاختراعات التي تساقطت على رؤوسنا دفعة واحدة مثل هطول صيفي مفاجئ.

وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد فتحت الأبواب أمام أفكار جديدة وتيارات فلسفية عجّلت من تقدم الإنسان وانعتاقه من الأفكار البالية التي كانت تنخر عالم السياسة والمجتمع، إلا أن الحروب الأخيرة، من أفغانستان إلى العراق فاليمن وسورية وليبيا، مهّدت الطريق لمشروعية القتل والتدمير، وأعادت الثقافة في بلادنا إلى عصور الانحطاط أين منها أزمان زحف جحافل المغول والتتار.

اليوم، أصبحت الثقافة الجارية تمتطي أثيراً يستبق كل الآمال التي حصدتها مآسينا المروّعة. جذور الثقافة مُرّة، ولكنها تعطي ثماراً حلوة حسب "منطق" أرسطو، بينما بات أقصى ما نتمناه هو أن تنال كلمتنا على أي شبكة تواصل اجتماعي بضعة ثوان أو مجرّد قراءة سريعة تضمن للنصّ وجوده وتمنحه ما يستحق كفكرة أو رأي يلتمس معالجة إشكالية ما.

طبعاً، لا يحدث شيء من كل هذا، إنّما نظرة خاطفة ومن ثمّ الانتقال إلى "بوست" آخر، أو الاستغراق في مشاهدة فيديو عنوانه "يا إلهي، انظروا ماذا حدث لهذا الحمار الوحشي؟".

من أغرب ما شاهدته يوم أمس، صورة نشرتها صحيفة معروفة لثعبان انغرست في أجزاء من جلده بعض الأشواك أثناء انسلاله من حرش شائك، مع تعليق يقول: "شاهدوا ماذا حلّ بثعبان ابتلع قنفذاً!".


* كاتب سوري مقيم في ميلانو

المساهمون