مبارك والأسد .. والانتقائية المتعسِّفة

مبارك والأسد .. والانتقائية المتعسِّفة

01 مارس 2020
+ الخط -
بدت الساحة العربية في السنوات الأخيرة، وربما تحدَّدت أكثر معالمها منذ الربيع العربي، شديدة الاستقطاب، مشحونة بالمنطلقات العاطفية الانفعالية، الذاتية، غير البريئة من الأغراض النفعية، وذلك في الحكُم على تحوُّلاتٍ عميقة، ومصيرية، للشعوب بعامَّة، تتجاوز حدودًا فردية، ومصالحهم ومكتسباتهم. 
وكان النقاش، الحادُّ غالبًا، يجري على مستويات سطحية، من دون الاستعانة بالمضامين الفكرية اللازمة، وكانت البطولة فيها للإعلام، ويا ليته كان، في الأغلب، إعلامًا مستنيرًا في استقصاء زوايا النظر، والآراء، بل كان، في حالاتٍ كثيرة، متحجِّرًا، ومثبَّتًا على شعاراتٍ لاذت بها بعضُ النُّظم التي فقدت صلاحيَّتها، بعد أن مُنِحت عقودًا، من امتلاك السلطة كاملة، ومقدّرات البلاد.
ولعل الرئيسين؛ المخلوع؛ حسنى مبارك، وبشار الأسد الذي أصبح محكومًا بالنقص المُخِلّ، والخطير، أن يكونا النموذجين اللذين يوضِّحان، بعض التوضيح، هذه الحالة البليدة. لماذا بليدة؟ (وربما أكثر)؛ لأنها لا تستوعب المتغيِّرات والمعطيات التي يجب أن يعاد بموجبها النظر، وهي أكثر من مجرَّد بليدة؛ لأن أصحابها ينتهجون، أو أكثرهم، تلك الانتقائية القائمة على الإنكار، عن عمدٍ، وتصميم مسبق.
ويمكن التركيز على منطلقين، ربما هما الأكثر جوهرية، لدى المتمسكين بمبارك وبشار، على 
اختلافاتٍ بينهما، في تفاصيل كثيرة، فأنصار مبارك، أو المتعاطفون معه، في الإعلام المصري الرسمي، أبرزوا صورته العسكرية، وتغاضَوْا عن تناوله سياسيًّا، وهو الذي حكم مصر؛ البلد المهم عربيًّا وإقليميًّا، قرابة ثلاثين سنة، ومع أنهم تغاضَوْا عن مساءلة فترة حكمه سياسيًّا وحقوقيًّا، مُوحِين بأنه بريء من كل ما آلت إليه مصر، من أسباب ودوافع، جعلت المصريين العاديين يخرجون بتلك الحشود الهائلة، حقًّا، لإطاحته، على الرغم من المخاطر الحقيقية التي امتدت أيام ثورة يناير، والخسائر في الأرواح والأموال. وكأنهم، بهذا التناول المجزوء، وبتلك الصورة العسكرية، يمنحونه شهادة تزكية، لا تقتصر على الجانب العسكري، ولكنها تمنحه في المحصِّلة التقدير العام، ولو عن المسكوت عنه، صراحةً (وتحرُّجًا كما يبدو) وهو الحكم.
هذه المغالطة الإعلامية لا يمكنها أن تنزع من المصريين الذين عرفوا مبارك، وعايشوا سنوات حكمه، ذلك الشعور بالظلم والانتقاص، أمام استئثار فئاتٍ معَّينة بثروات البلد، وأمام إقصائهم الفعلي عن تقرير الحاكم الذي يريدونه، بوساطة الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم)، وسطوته على الدولة وأجهزتها، كما كان يحدث أيام الانتخابات الشكلية، وأمام تهيئته أبناءه كي ينالوا من السلطة والنفوذ أكثر ممَّا تسمح به قدراتهم الذاتية. وكان ذلك الحكم الاستبدادي بذريعة أنّ المصريين غير مؤهَّلين للديمقراطية، علمًا أن مقادير أكبر من الإنصاف والعدالة كانت ممكنة، من دون انخراط مصر في المسار الديمقراطي الكامل.
وأما المنحازون لبشار الأسد فيتذرَّعون بالدولة السورية، وجيشها العربي، أمام محاولات الكسر والإلحاق للدول الغربية، وإفقاد سورية استقلالها وقوَّتها الممانِعة، وحجَّتهم أنّ الهدف الحقيقي هو تدمير سورية، وليس التغيير أو الإصلاح. وفي هذا التصوّر تجاهلٌ تام، أو شبه تام، لحقوق الشعب السوري في التغيير، وفي تحسين أوضاعه، في مقابل نظام بوليسي قمعي، من الطراز الأول، ومن دون الإسهاب في تطوُّرات الأحداث في سورية، من المظاهرات السِّلمية المطالبة بالإصلاح، أكثر من ستّة أشهر، من دون أن يتأهّل النظام إلى تلبية الحدّ الأدنى من المطالب المشروعة؛ ما دفعها، (أو أنه تمَّ استدراجها)، أمام بطش قوات الأسد إلى العسكرة، وهي التي فتحت الباب أم أقلمة النزاع، أو تدويله. ومع أنّ الدولة، بما تملكها من سلطة، وبما تحتكره من أدوات العنف (القانوني) هي التي تتحمَّل المسؤولية الكبرى في منحنيات العلاقة مع الشعب، وأنها التي تتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، في إدارة "الأزمة"، قبل اندلاعها، وبعدها، إلا أنّ الركيزة الأساسية التي بُنيت عليها المواقف التي تمجّد الأسد ونظامه، وهي الحفاظ على الدولة والبلد، لم يعد لها وجود فعلي، بعد أن أصبحت إرادة الأسد مرهونةً لدولة عالمية كبرى، تقدِّم مصالحها القومية في الأساس، هي روسيا، ولدولة إقليمية طامحة، هي إيران.
ومع ذلك، يجري تجاهُل هذه الخسارة الفادحة التي يصعب، إن لم يكن يتعذّر، استدراكُها، في ظل العلاقة المدمَّرة بين القيادة والشعب، بعد أن حفر نظام الأسد عميقًا خنادق الكراهية والانتقام، بتلك الممارسات الفائقة الوحشية، لم تقتصر على ما لا يُكاد يُحصى من المعتقلين، وتدمير البيوت 
وتهجير الأهالي، بما يقترب من التطهير الطائفي، بل تعدّاها إلى منطق العصابات الهمجية ومنطقتها، بإهانات جسيمة، كما حدث أخيرا من نبش لقبور الموتى في ريف إدلب، والعبث بجماجمهم مثلا، (ليست المرَّة الأولى). وبهذا تفقد الدولة حيادَها، وتصبح المعادل الأكثر إيلامًا، لتلك الجماعات التكفيرية؛ فماذا بقي، أو أبقى الأسد، من معنى للدولة، والبلد الواحد؟
وخلاصة القول إنَّ افتقاد النظام، أيِّ نظام، شرعية متينة، ناتجة عن طريقة وصوله إلى السلطة ابتداء، ثم تفاقم أزمة شرعيته بسوء الإدارة والفساد، ثانيًا، يمنح الشعب الدوافع الحقيقية لتغييره، أو إصلاحه. ولمّا كانت بنية النظام القائم على المحاصصات والمحاسيب، والمفتقِد إلى مؤسسات الحكم الفاعلة تجعله عاجزًا عن تمثّل تلك الاستحقاقات التغييرية؛ فإنه يندفع نحو الوسيلة الأسهل في نظره، والأضمن، وهي القمع. وفي طريقه إلى تحقيق ذلك، فقد النظام في سورية السيادة، ولم يعد الجيش قادرًا على ضمان الاستقلال.
وتحت ذلك كلِّه بنية أخلاقية مفتقَدة، تجتزئ من الصورة ما يتوافق ونظرتها المسبَّقة، ولا تُخضِع تلك النظرة إلى التعديل، أو إعادة النظر، مهما حصل، وهنا موطن الداء؛ أن نرتقي إلى الكلمة المسؤولة، والرأي النزيه.