ما يشبه الانهيار العصبي الوطني

ما يشبه الانهيار العصبي الوطني

20 اغسطس 2020
+ الخط -

صعدنا في لبنان بفرحة الأطفال، وببراءتهم أيضاً، إلى الجنة، مع اندلاع ثورتنا في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. المخضرمون من بيننا، شهود مراحل صعود سابقة، أرادوا أن يؤمنوا بهذه الثورة. فرحوا معها. بعضهم يعطي "دروساً" للشباب قادة هذه الثورة، بما تمليه عليهم تجاربهم السابقة. وآخرون يكتفون بلعب دور "الجمهور العريض": باحتلاله متراً مربعاً واحداً في تظاهرات تلك الثورة. وفي أعماق أعماقهم، حدسٌ قد يُفسد فرحتهم؛ من أنها لن تحقّق ما تصبو إليه هذه الثورة. ولكنهم يُسكتون نذير الفشل هذا، ويستمرّون، تغمرهم تلك الغبطة التي تخفّفهم من وجودهم، فتحوّلهم، ولو مؤقتاً، إلى تحليقٍ خفيضٍ فوق الأرض الصلبة. قبيْل ذلك، وبعيْده، كانت النوائب تتساقط على رؤوس الجميع؛ بدأت بسرقة المصارف ودائع اللبنانيين، متوسطي الحال، الأكثر منهم والأقل. وبدولار يتطاير، وبطالة وركود. وفقرٌ يلوح في الأفق. مجرّد فقر. 

ثم يأتي الربيع بالمصيبة الثانية، كورونا. وهذه نشترك بها مع بقية الإنسانية. ولكن على طريقتنا، بما توفّر لنا من موارد، ومن مهارات وزراء حكومتنا؛ وقد رَأَسهم رجلٌ ارتضى لنفسه أن يكون ألعوبة، "تأخذ" قرارها، أو تؤجّله، ما يمليه عليها مؤلفوها. وأي قرار؟ أي تأجيل؟ بعشوائية، بتخبّط، بميوعةٍ، بعرّاضات إعلامية، بـ"انتصارات" أيضاً... كان علاج كورونا، بين حجر صحي و"تعبئة عامة" وتواطؤ مع التجار، ومقاولي النرجيلة؛ وارتفاع جنوني للأسعار، وانقطاع أصناف، وذريعة للمصارف لتغلق أبوابها على زبائنها؛ فاستمرار استيلائها على أموالهم. وبلاء يهطل على من انقطع مورد رزقه، بإبقائه في بيته، أو صرفه على الطريقة اللبنانية المتوحشة. وسياسيون يسعدون بأن الوباء أغلق على الثورة ساحاتها، وبأنهم أفلتوا من الحساب. 

كان علاج كورونا، بين حجر صحي و"تعبئة عامة" وتواطؤ مع التجار، ومقاولي النرجيلة؛ وارتفاع جنوني للأسعار،  وذريعة للمصارف لتغلق أبوابها على زبائنها؛ فاستمرار استيلائها على أموالهم

كانت تلك الأشهر الأخيرة السابقة على الانفجار الكبير مليئة بالهمّ والقلق، كيف نستطيع أن نعيش؟ كيف نتدبر شؤوننا البسيطة؟ من مأكل ومدارس وتنقل وإيجار .. وكل ما يمتّ بصِلة إلى بديهيات الحياة الآدمية. هكذا، كنا نزحف على بطوننا، متوسّلين الطاقة من الرحمة الإلهية، متجنّبين الكلام عن مجاعة تلوح قريباً. متّكلين على طوطمنا الوطني، "الفينيق"، من أنه سيرزقنا لاحقاً بالطاقة على النهوض مجدّداً، فلا بد أن "يعود لبنان كما كان"، كما فعل بعد مصائب سابقة. يعيننا في أملنا أننا لسنا وحدنا. صحيح أن مستشفياتنا لا تليق بشعبنا العنيد. ولكن انظر إلى بقية العالم. حتى المتقدّم منه. ولا داعي لليأس. 

هكذا عشنا المرحلة السابقة على الانفجار الكبير. بنصف أمل، ولكنه أملٌ معقول، عقلاني، معقْلن. ينهضنا، على الأقل، من ذاك الضجر الفائت والجديد في آن. ضجر خاص. فيه تراكم وفيه تبعثر. تطلّ من أطرافه ابتسامةٌ صفراء. ابتسامةٌ لا تدوم. تقمعها الرغبة بالأمل، بالحلم بحياة أخرى. بإمكانية الحلم، وهو متاح الآن، مع الحجر الصحي، ومع السكون الذي يلازمه، وطرد الهموم وتأجيل المستقبل. 

ابتسامةٌ لا تدوم. تقمعها الرغبة بالأمل، بالحلم بحياة أخرى. بإمكانية الحلم، وهو متاح الآن

لكن التاريخ أبى إلا أن يضرب تلك الجهود المتواضعة لمقاومة غريزة الموت. بأقل من دقيقة واحدة، الانفجار يزلْزل ما تبقى من صحتنا النفسية، بعد القنوط والهمّ. وهنا لا أتكلم عن أولى ضحاياه الذين فقدوا بسببه أحباء، أشلاء، أو بكامل جثثهم؛ أو ما زالوا يسألون عن مفقودين. ومنازل وشركات ومؤسسات تجارية، وأحياء الأُلفة والجيرة، والمناخ، وأصناف الأنَس التي تعرفها مختلف أحياء بيروت. لا أتكلم عنهم، مع أنهم هم الموضوع، بقتلاهم وجرحاهم ومشرَّديهم، هم الجانب البالغ القسوة وعرياً لذيول الانفجار. إنما أتكلم عن الذين لم يخسروا شيئاً مادياً ملموساً من جرّاء الانفجار. الذين أُصيبوا بروحهم وقلبهم. 

هؤلاء الذين عاشوا الانفجار، وهم أبعد من الذين بالقرب منه، الذين تزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، وسمعوا الانفجار الأكبر. وأيضاً الذين كانوا بعيدين عنه، أو علموا به وهُم على بُعد بضعة كيلومترات، أو آلاف الأميال؛ الذين يملكون أدنى الشعور والمعرفة.. كلما مرّ يوم واحد على الانفجار، أدركوا مدى هوله، وحجم خساراته المروّعة.. أصيبوا بعوارض إضافية، لا تراها العين المجرّدة. 

لا تعزّيك مظاهر التضامن الدولي، ولا المساعدات العارفة طريقها الصحيح.. إنها حبة أسبيرين

عوارض متفاوتة ومتنوعة من الانهيار العصبي. متفاوتة ومتنوعة، لأن الطبائع درجات وسياقات. تظهر كلها، أو بعضها، أو واحدة منها. وهي تستجيب للشروط العيادية البسيطة لمعنى الانهيار العصبي: إنها الرغبة الدائمة بالبكاء، أو المتقطعة، أو الممْتنعة عنه؛ كأن الدموع نشَفت، أو سالت، أو تقطّعت. فأصبحت نشاطاً مسترْسلاً أو مسْتغلقاً. تحضر عند أي تفصيل، كبير أو صغير؛ مثل الجنازات اليومية، والصلوات، والحزن الذي يملأ الوجود. ولوعة ذاك الإطفائي، حامل نعش زميله، ربما قريبه، ربما صديقه، وهو يبكي بحرْقةٍ محرِقة. بكاء الرجال هو آخر الحصون..

ومع الدموع، أو من دونها، النقْزات المتتالية، المتقطعة من الأصوات المفاجئة. نقْزات تزور الصاحي مثل النائم. ويا لنعمة القادر على النوم؛ من دون تلك النقزات، من دون حبوبٍ منوِّمة، من دون ذاك الأرق الذي يحوِّل الليل إلى كابوس، فالألم الروحي يجتاح الوعي واللاوعي، وينال من القلب. ومعه المزاج الأسود، وفقدان الاهتمام بالأشياء، أو التمتّع بها، والشعور بالذنب، بالعجز وبعدم النفع. بالإرهاق الجسدي، الذي يحولكَ إلى رُكام. وفقدان التركيز والشهية، أو الإفراط بهما. وأوجاع جسدية في مختلف أنحاء الجسم؛ تجعلك تقلب تلك الحكمة القديمة، فتقول إن "الجسم السليم في العقل السليم". لا العكس، الذائع، إن "العقل السليم في الجسم السليم".. 

لم يعُد عيباً أن تتشاءم أو تيأس. بل أصبح عليكَ أن تشفى من مرض التفاؤل، إذا أردتَ أن تلطّف من آثار الانهيار العصبي على روحكَ وقلبكَ

ثم التشاؤم؛ تلك الكلمة التي "لا يجب" أن نتفوّه بها. لأنها نقيض طوطمنا الوطني الذي ينبعث من رماده. تشاؤم من نوع جديد أيضاً. لا مكان فيه لأي نوستالجيا؛ بل تلك الأخيرة مؤذية، مضلِّلة، لم يَعُد لها مفعولها السحري السابق. تشاؤم الذي لا يحب الاستماع للأغاني البديعة التي تغازل بيروت، أو لبنان. فتلك البيروت بُترت من أقدم أطرافها، أي الميناء، العائد عمره إلى زمن الفينيقيين. وذلك اللبنان، كأنه طار من الوجود. غاب عنه..

وإذا حاولتَ أن تخرج من خيالك، أو تنجو منه، فلا تحتاج للوصول إلى ميدان الخراب. تكتفي بانكماش قلبك وأنتَ في طريقك إليه، فتعزف عن الوصول. الانفجار أغلق المدينة على نفسها، أكثر فأكثر. المُشاة فيها بالكاد يتحرّكون. المحلات التجارية المغلقة، الفارغة، وإعلانها عن إيجار أو بيع. الوجوه الكالحة، التعِبة أصبحت أكثر تعاسة، أكثر رثاثة. خلف الكمّامات، تبدو كأنها خارجة من مستشفى، أو دار للعجزة أو المجانين. 

ولا تعزّيك مظاهر التضامن الدولي، ولا المساعدات العارفة طريقها الصحيح.. إنها حبة أسبيرين. فالأساس أن لبنان، قبل الانفجار، كان "ساحة" تلعب بها قوة واحدة دوراً رئيسياً؛ وتحوّل من بعده إلى قاعدة تنافس وتفاعل بين القوى الدولية والإقليمية المشتبِكة ببعضها والمتفاهمة في آن..

لم يعُد عيباً أن تتشاءم أو تيأس. بل أصبح عليكَ أن تشفى من مرض التفاؤل، إذا أردتَ أن تلطّف من آثار الانهيار العصبي على روحكَ وقلبكَ.