ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (3)

ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (3)

24 فبراير 2019
+ الخط -
الصفحة الثالثة
أنيس منصور: الجليس الأنيس لسيادة الرئيس 

لولا جيهان السادات لأصبح أنيس منصور "هيكل عصر السادات"، أو هذا ما كان يعتقده أنيس منصور طبقاً لشهادة الكاتب الصحفي جميل عارف التي سجلها في كتابه (أنا وبارونات الصحافة) الذي صدر في مطلع التسعينات، حين كان كثير ممن تحدث عنهم الكتاب أحياء، ولم يقم أحدهم بمقاضاة الكاتب أو تكذيبه. كان جميل عارف قد عمل مع أنيس منصور في إنشاء مجلة (أكتوبر) التي أنشئت بقرار من السادات شخصياً، على أمل أن تكون أكبر مجلة سياسية في الوطن العربي كله، وليس في مصر فقط، ولأن السادات كان من قراء أنيس منصور والمعجبين بأسلوبه، فقد تصور أن أنيس سيكون أفضل من يحقق له هذا الأمل، لكنه لم يدرك أن مهارة أنيس منصور ككاتب أكبر بكثير من مهارته كصانع صحيفة، وأنه يمكن أن يكون رئيساً ناجحاً لتحرير مجلة لها صيغتها الثابتة التي أنشئت ونجحت من قبله، لكنه لن يكون قادراً بنفس القدر على ابتداع صيغة صحفية جذابة لمطبوعة جديدة، ولذلك ولدت مجلة (أكتوبر) ميتة أو فلنقل "مطفيّة"، برغم كل ما تلقته من دعم ومساندة من السادات الذي كان حريصاً على أن يخص أنيس منصور بالكثير من الحوارات الخاصة، والتي كان أنيس ينشر بعضها، ويحتفظ بالبعض الآخر لدرجة أنه أعلن في مطلع التسعينات أن لديه شرائط تحتوي على أكثر من ألف ساعة مسجلة بصوت السادات في أحاديث متنوعة من السياسة إلى الصحافة بل ويحتوي بعضها على أغاني يغنيها السادات، معلناً أنه يضعها تحت تصرف الرئيس مبارك والجهات المختصة بالأمن القومي، وهي الشرائط التي لا يعرف أحد مصيرها حتى الآن.  

في كتابه عن بارونات الصحافة والذي تعرض بعد صدوره للتعتيم والتجاهل في أغلب الصحف الحكومية، بل وفي بعض الصحف الحزبية التي قررت أن تجامل الأسماء "الكبيرة" التي تحدث جميل عارف عن دورها في إفساد الصحافة المصرية، يروي جميل عارف أن أنيس منصور كان يتباهى دائماً أمام المحررين بعلاقته الخاصة بالرئيس السادات، موحياً أنه بات الصحفي الأقرب إلى السادات، برغم معرفة الجمع بوجود علاقات خاصة بين السادات وصحفيين آخرين على رأسهم موسى صبري. لكن أنيس اعترف لجميل في لحظة صفا أن الفرصة كانت متاحة له أن يقوم مع السادات بنفس الدور الذي لعبه هيكل مع عبد الناصر، لكن ذلك لم يحدث فقط لأن "سيدة مصر الأولى" جيهان السادات لم تكن مستريحة لعلاقة السادات بأنيس منصور، وأنها كانت تفضل عليه موسى صبري، يضيف جميل عارف إلى ما قاله أنيس إن جيهان السادات كانت ترى أن أنيس "دمه تقيل". رغم أن أنيس كان حريصاً على أن يقوم بتسلية السادات على أكمل وجه، لدرجة أنه كان يصطحب معه المؤلف المسرحي "الكوميضي" فايز حلاوة، لكي يجالس السادات ويقوم بمهمة فرفشته، وهو ما يمكن أن يقول لك الكثير عن ذوق السادات في الكوميديا، إذا كنت ممن شاهدوا أعمال فايز حلاوة على المسرح، أو قرأوا كتاباته ثقيلة الظل التي كان أنيس قد أفرد لها الصفحة الأخيرة في مجلة (أكتوبر) والتي كانت تصنف زوراً وبهتاناً ككتابات ساخرة.

يؤكد ما ذكره جميل عارف طبيعة الدور الذي اختاره أنيس منصور لنفسه، حين جاءته فرصة الاقتراب من رأس السلطة في مصر، حيث لم يختر دور مصدر المعلومات أو المستشار السياسي، بل اختار دور الأنيس النديم أو مثقف البلاط المسلي، الذي يعلم كراهية رئيس البلاد للمثقفين الجادين أو "الأفندية الأرازل" كما سماهم في أحد خطاباته. لكنه يعلم أيضاً أن السادات يحب الكلام في الحكايات والتاريخ والأدب والفنون، ويفضل ذلك على قراءة التقارير والملفات السياسية والاقتصادية المزعجة التي كان يرى أنها كانت السبب في قتل سلفه جمال عبد الناصر، كما قال مرة لأحد مساعديه في أيامه الأولى في السلطة، حين طلب منهم أن يبعدوا عنه ركام التقارير التي كان عبد الناصر يدمن قراءتها، ولذلك لم يرغب أنيس في منافسة أحد من الكتاب المهتمين بالحصول على أخبار خاصة لصحفهم، ولم يفكر في لعب دور لسان النظام، كما كان يفعل كثير من زملائه وعلى رأسهم موسى صبري، ولم يكن منشغلاً بعرض خدماته في صياغة الخطابات كما فعل آخرون، بل اكتفى بعرض خدماته كمتحدث لبق وقارئ موسوعي ونديم ممتاز.  

حين كتب ناصر الدين النشاشيبي عن أنيس منصور في كتابه (حضرات الزملاء المحترمين) الذي أفقده الغضب في الصياغة بعض أهميته، أجاد النشاشيبي في الإشارة إلى أن أقوى أسلحة أنيس مع السادات، كان قدرته على المشي الطويل الذي احترفه تقرباً للسادات، الذي كان مشاءاً كبيراً، لكن أنيس لم يكن مشاءاً مستمعاً كغيره ممن يوفرون طاقتهم لكتم أنفاسهم حين يمشون مع السادات السريع في مشيه، بل كان يمتلك ميزات أعجبت السادات منها قدرته على الحكي المتدفق خلال المشي والذي ينبع من قراءاته الكثيرة وقدرته على اختيار ما يبدد ملل السادات، وربما كانت أشهر واقعة ترتبط بمشي أنيس منصور مع السادات، تلك التي حدثت حين ذهب السادات في زيارته إلى القدس المحتلة، وقرر أن يمشي في ساحة المسجد الأقصى، وصاحبه أنيس منصور كالعادة في مشيه، ليفاجأ الاثنان خلال مشيهما بأطفال فلسطينيين ظن أنيس أنهم يقتربون لتحية السادات، لكنه فوجئ بأحدهم يصرخ قائلاً: "شوفوا اليهود الذين جاؤوا إلينا من مصر"، فأجابه أنيس منصور على مسمع من السادات بشتيمة يعاقب عليها القانون، طبقاً لما رواه أنيس، وهو تصرف امتص غضب السادات مما سمعه، وجعله يكمل مشيه دون أن يتعكر مزاجه أكثر.


كان أنيس منصور حريصاً في كثير مما كتبه، على تأكيد الفرق الذي لمسه بين السادات وبين عبد الناصر، مشيراً إلى اضطهاد عبد الناصر له ومنعه من الكتابة، بسبب مقالة كتبها بعنوان (حمار الشيخ بن عبد السلام)، والذي فهم منه عبد الناصر أن أنيس منصور يعرض بعدالة القضاء في عهده. وفي واحدة من المرات العديدة والمديدة التي روى فيها أنيس منصور قصة ذلك المقال، وبالتحديد في مقدمة كتابه (في السياسة)، الذي لم يكن من بين كتبه الناجحة فلم تتم إعادة طبعه كثيراً، روى أنيس منصور أنه عندما أعاد نشر مقاله في مجلة (أكتوبر) قال له السادات ضاحكاً خلال أحد اجتماعاته مع محرري المجلة: "أعوذ بالله، هذا المقال تستحق عليه الشنق وليس الفصل"، فرد عليه أنيس منصور ببراعة من يعطي لمحرريه دروساً في تملق رأس السلطة: "سيدي الرئيس إنك تحيرني، فالرجل الذي كان يشنق الناس اكتفى بفصلي، وأنت الذي لا تفصل الناس تطالب بشنقي"، ولم يكن ينقص تلك الحكاية إلا أن يختار لها أنيس خاتمة تراثية من طراز "فبكى الرئيس حتى اخضلّت لحيته".  

يروي ناصر الدين النشاشيبي أن عبد الناصر المولع بمتابعة كل ما ينشر في "صحافته" المؤممة، كان قد أصدر أمراً إلى وزير إعلامه محمد عبد القادر حاتم، بأن يتم توجيه ملاحظة إلى مسئولي مؤسسة (أخبار اليوم) ليقوموا بتخفيف ما كان يكتبه أنيس في رحلاته حول العالم عن طقوس تحضير الأرواح، وهي الكتابات التي حققت نجاحاً كاسحاً في مصر وقت نشرها متفرقة، وبعد أن تم تجميعها في كتاب ظل يحقق مبيعات كبيرة لسنوات طويلة، لكن ملاحظة عبد الناصر أغضبت أنيس منصور، فقرر كما يقول النشاشيبي أن يقوم بغمز قناة عبد الناصر في مقاله عن حمار الشيخ العز بن عبد السلام، ولم تفت الغمزة على عبد الناصر فقام بمنعه من الكتابة. 

لكن أنيس الذي أفاض في الحديث عن اضطهاد عبد الناصر له، لم يتوسع بنفس القدر في الحديث عن عودته إلى الكتابة بأمر مباشر من عبد الناصر، بعد أن سأل عبد القادر حاتم عن سبب اختفاء مقالات أنيس منصور، فقال له عبد القادر حاتم الخبير بطريقة التعامل مع عبد الناصر، إنه لا يعرف السبب في ذلك، وهي واقعة رواها أنيس منصور بنفسه دون أن يكررها بنفس طريقته في تكرار واقعة المنع، كما أنه روى نقلاً عن صديقه علي أمين أن عبد الناصر وصف مقالاً كتبه أنيس عن الصين والإجراءات الشيوعية التي طبقتها، تم نشره في عام 1959 بأنه مقال سياسي رائع، بل وإنه سأل بعدها: لماذا لا يكتب أنيس منصور في السياسة؟ لكن المحيطين بعبد الناصر لم يساعدوا على مد جسور التواصل بين عبد الناصر وأنيس، لذلك حين ذهب أنيس بعدها بأربعة أعوام ليتسلم جائزة الدولة في أدب الرحلات من عبد الناصر شخصياً، قال له عبد الناصر وهو يسلمه الجائزة: "هوّه انت؟"، وهو تساؤل لم يعلق عليه أنيس وظل محتاراً في تفسيره، وزادت حيرته حين روى له يوسف السباعي أن عبد الناصر سأله ما إذا كان أنيس منصور شيوعياً فقال له يوسف السباعي إن الشيوعي هو الدكتور عبد العظيم أنيس وليس أنيس منصور.

 

في حكاياته عن حياته الصحفية في عهد عبد الناصر، يروي أنيس منصور أن المخابرات حققت معه لأنه نشر مرة في مجلة (الجيل) صورة ظِلّية لناهد رشاد ويوسف رشاد بمصاحبة موضوع يتحدث عن نقص السردين في الأسواق، وأنه أقسم لمن حقق معه أنه لم يكن يعرف أن هذه الصورة تخص ناهد رشاد ويوسف رشاد، وأن الصورة نشرت بهدف جمالي وفني، وليس لأي هدف آخر، كما روى أيضاً أن المخابرات حققت معه مرة أخرى لأنه وصف بيت عبد الناصر بأنه "متواضع"، وتم فهم الوصف على أنه غمز ولمز وتريقة، وبسبب هذين الاستدعائين بالإضافة إلى الإيقاف القصير الذي حدث لأنيس منصور، قبل أن يعود للكتابة ثانية بأمر عبد الناصر، عاش أنيس منصور في دور المناضل السياسي طيلة عهدي السادات ومبارك، وجعل من تلك الوقائع عماداً لكتابه (عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا) والذي هاجم فيه عبد الناصر بقوة لا تتسق مع عشرات المقالات التي سبق أن كتبها في مديح عبد الناصر وسياساته، وهو ما حاول الكاتب جلال الدين الحمامصي أن يذكره به حين كتب قائلاً: ".. لما مات جمال عبد الناصر كان أنيس منصور من أوائل الراثين للزعيم المصري ومن أوائل الذين رفعوه إلى مصاف القديسين"، وهو ما كان يرد عليه أنيس منصور بالقول إنه لم يفعل ذلك اقتناعاً منه بما كتبه، ولكن فعله لكي يستمر في النشر والكتابة، خصوصاً بعد أن تعرض للإيقاف عن الكتابة، متخذاً من كل مرة تأتي فيها سيرة "اضطهاده" للإمعان في مديح السادات راعي الحريات، لكن ذلك المديح لم يوصله إلى ما هو أبعد من دور النديم الأنيس، بسبب موقف جيهان السادات منه. 

يروي جميل عارف أن أبرز موقف أظهرت فيه جيهان السادات عدم رضاها على أنيس منصور، كان بسبب ظلمه البين للراحل زهير الشايب صاحب مشروع ترجمة كتاب (وصف مصر)، والذي يفصل جميل عارف في كتابه وقائع اضطهاد أنيس منصور له بشكل منهجي ومتعنت، وبعد أن وصلت شكوى زهير إلى جيهان من خلال أستاذها في كلية الآداب بجامعة القاهرة الدكتور عبد الحكيم راضي، تأثرت جيهان بما سمعته وقالت للسادات: "أنا عارفة إنك بتحب أنيس وهو جليسك وأنيسك ولكن أن يضطهد شاباً عبقرياً مثل زهير، فلا أظن أنك توافق على ذلك"، ليقرر السادات نقل زهير الشايب من مجلة (أكتوبر) إلى مؤسسة (أخبار اليوم) ليستلمه موسى صبري هناك ويبدأ في اضطهاده بطريقته الخاصة.

من المفارقات التي لا يعرفها الكثيرون، أن مشروع مجلة (أكتوبر) كان السادات أصلاً قد عرضه على محمد حسنين هيكل في مرحلة ما، عاد فيها التقارب بينهما لفترة قصيرة، لكن هيكل رفض عرض السادات دون تردد، وهو ما تسبب في تأجيج غضب السادات منه، ولذلك قرر السادات إعطاء المشروع لأنيس منصور الذي كان عند حسن ظنه، ليس من الناحية الصحفية، بل من ناحية إخلاصه في أداء دور حامل أفكار الرئيس إلى القراء، ولذلك خص السادات مجلة (أكتوبر) بأوراقه السياسية التي وصفها أنيس بالطبع بأنها "أهم معالم مجلة أكتوبر"، وحين صدر العدد الأول من المجلة في أكتوبر 1976 أرسل السادات بكلمة مسجلة إلى محرري المجلة، تم إذاعتها في جميع نشرات الإذاعة والتلفزيون، ليحرص أنيس منصور على أن يتصدر السادات غلاف (أكتوبر) دائماً وبشكل يفوق معدل ظهوره على غلاف منافسته الأعرق مجلة (المصور)، وهو سباق يستحق أن يكون موضوعاً لدراسة صحفية مثيرة للضحك والبكاء. 

لكن رضا السادات عن أنيس ومجلة (أكتوبر) وصل إلى أبعد مدى، حين أصدرت المجلة في 15 مايو 1977 عدداً خاصاً عن "ثورة التصحيح" الثورة المفضلة للسادات، كتب فيه السادات عن "اليوم الكبير من ثورة التصحيح"، ووصف السادات العدد بأنه رائع، وهنّأ العاملين عليه في تهنئة نشرت في جميع وسائل الإعلام، ليفتخر أنيس منصور أن توزيع المجلة وصل إلى 150 ألف نسخة في عام، متناسياً أن هذا لم يكن ليحدث، إن كان قد حدث بالفعل، لو لم تتسابق أجهزة الدولة كلها لدعم المجلة والاشتراك فيها إرضاءاً لخاطر السادات، لكن ذلك الدعم لم يساعد المجلة على التطور والنجاح، فتواصل تراجع توزيعها وتدهور مستواها، لدرجة أحبطت السادات وجعلته في مطلع عام 1981 يفكر في ضمها إلى صحيفة (مايو) لسان حال حزبه الوطني الحاكم. 

ربما لن تجد واقعة تلخص تصور السادات للصحافة ودورها، وتلخص في الوقت نفسه طبيعة الدور الذي لعبه أنيس منصور خلال الوقت الذي قضاه في خدمة السادات، أفضل من الواقعة التي حدثت حين قام أنيس منصور باصطحاب 70 محرراً ومحررة من مجلة (أكتوبر) ليقوموا بزيارة السادات في بلدة ميت أبو الكوم مقره الرئاسي المفضل في مرحلة (أخلاق القرية)، قائلاً للسادات بما كان يتصور أنه مهارة في التملق: "أقدم لك أحفادك فهؤلاء هم أبناء مجلة أكتوبر إحدى بنات أفكارك أي أحفادك"، وهو ما أعجب به السادات، لكن مزاجه سرعان ما تعكر، حين طلب جميل عارف مدير تحرير (أكتوبر) الكلمة واقترح على السادات أن تستقل مجلة (أكتوبر) عن ملكية دار المعارف لها، لكي تكون مجلة مستقلة بمعنى الكلمة، فقاطعه السادات بغضب ولم يتركه يكمل بقية اقتراحه وقال له: "انتم عاوزين صحافة مدرسة مصطفى وعلي أمين اللي بتقول لك تدخل على الوزير تضرب بابه برجليك زي ما بيحصل في الواشنطن بوست في أمريكا، الكلام ده في أمريكا، ودي مدرسة لا مؤاخذة ما تنفعش عندنا وصحافة مصر مش زي أمريكا"، وهي كلمات لم يعلق عليها أنيس منصور ولا أي من "أحفاد السادات" من الصحفيين، ولا حتى بالقول المهذب الذي يذكر الرئيس أن صحافة مصطفى وعلي أمين لعبت دوراً كبيراً في خدمة نظامه، حين طلب منها النظام تشويه صورة عهد عبد الناصر، وأن غلطة مصطفى وعلي أمين الرئيسية التي أغضبت السادات منهما، هي أنهما صدقا أنه يرغب في منح الصحافة حرية حقيقية على عكس ما كان يحدث في عهد عبد الناصر، وهو وهم لم يعش طويلاً، ليس فقط حين بدأ السادات نقل الصحفيين تعسفياً إلى أعمال لا علاقة لها بمهنتهم، بل حين قرر إعادة مسلسل اعتقالات الصحفيين والسياسيين من جديد، وقرر تجذير مفهوم الرقابة على الصحف بصورة أشد تأثيراً مما كان عليه الوضع من قبله، فلم يعد الرقيب مجرد موظف حكومي ترسله الأجهزة الأمنية إلى المؤسسة الصحفية، بل أصبح الرقيب هو رئيس التحرير الذي يتصل مباشرة بالأجهزة الأمنية ويطلب رضاها.

بعد اغتيال السادات، لم يختف أنيس منصور من ميدان كتاب السلطة، ولم يتوقف عن ممارسة دوره في خدمة نظام مبارك بمقالاته التي تدافع عن كل ما يفعله رئيس الدولة الذي استمر في تنفيذ سياسات سلفه السياسية والاقتصادية، لكنه لم يتمكن من استئناف دور الأنيس النديم، لأن مبارك لم يكن مهتماً بكل ما له علاقة بالثقافة والفنون والآداب والتاريخ، وهي المجالات التي كان يحب أنيس منصور أن يتحدث فيها مع السادات، كما أن مبارك لم يكن مهتماً بالمشي قدر اهتمامه بلعب الاسكواش، ومع أن مبارك لم يقم في عقده الرئاسي الأول بتغييرات صحفية واسعة، بل واصل التعاون مع رجال السادات في الصحافة، الذين كان كثير منهم يصحبه في رحلاته الخارجية كنائب لرئيس الجمهورية، إلا أن أنيس منصور لم يكن من دائرته المقربة، وربما كانت أكثر مرة أدرك فيها أنيس منصور أنه لم يعد مطروحاً على دائرة الاهتمام، حين أعلن أنه لن ينشر الشرائط التي يحتفظ عليها بصوت السادات، إلا بعد أن يأذن له الرئيس مبارك بذلك، لأن نشرها متوقف على قراره الرئاسي، لما يوجد بها من مسائل متعلقة بالسياسة العليا للدولة والأمن القومي، وهي مبادرة لم يتم التجاوب معها رسمياً بالشكل الذي كان ينتظره أنيس منصور، فتوقف حديثه المكثف لوسائل الإعلام عن أشرطة السادات التي لا يعلم أحد في أي درج من أدراج الأجهزة السيادية تقبع؟ ولعلها تجد من يبيعها ذات يوم بالشئ الفلاني لأحد "هواة التسجيلات" لتجد طريقها إلى الإنترنت، أو زواره الراغبين في تسلية فريدة من نوعها في حفلات السمر.

حين قرر نظام مبارك التخلي عن خدمات أنيس منصور في مجلة (أكتوبر) التي تناقصت أرقام توزيعها بشكل مذهل، ثم عن خدماته في صحيفة (مايو) التي رأس تحريرها فزادها مواتاً وفشلاً، أدرك أنيس منصور أن ما سيبقى له ككاتب هو قدرته على لعب دور الأنيس النديم للقراء، لذلك قرر التركيز على دوره ككاتب يمتلك خلطة خاصة يختلط فيها الحديث الثقافي الرفيع عن صالون العقاد، بالحديث الخزعبلاتي الرقيع عن الذين هبطوا من السماء، ويجتمع فيها الحديث عن لعنة الفراعنة، بالحديث عن العشق والغرام وهجاء المرأة، بمغازلة المشاعر الدينية، مع الحرص على رواية ذكرياته عن صديقه الحميم السادات وعدد من أصدقائه من قادة إسرائيل التي لم يعد مهتماً بالكتابة ضدها وضد اليهود بشكل عنيف كما كان يفعل أيام عبد الناصر، ليحرص بين الحين والآخر على التذكير بوقائع اضطهاده في عهد عبد الناصر، والتبشير بآماله في الرئيس مبارك الحكيم الحصيف ثاقب النظر الذي لم يكن يفوت فرصة لمديحه ومهاجمة معارضيه، مقدماً كل ذلك في كوكتيل محبوك الصنعة مصمم لإرضاء "القارئ الوسطي الجميل" الذي يحب الله والوطن والاستقرار والسلام والغموض الهادف والإثارة المنضبطة والحكايات التاريخية المسلية، وهو ما وضعه على رأس قائمة الكتّاب الأكثر مبيعاً طيلة عهد مبارك، وضمن له موقع كاتب العام في استفتاءات إذاعة الشرق الأوسط على مدى ربع قرن، ومكّنه لسنوات طويلة من كتابة ثلاثة مقالات يومية في صحف (الأهرام) و(الشرق الأوسط) و(العالم اليوم)، بالإضافة إلى أكثر من عشرة مطبوعات أسبوعية وشهرية، دون أن يتوقف طويلاً عند الحملات الشرسة التي كانت تنتقد "مواقفه" وتكشف تناقضاته، لأنه أدرك أن إجادته في لعب دور "أنيس الجليس" للقارئ سيمكنه من تجاوز كل تلك الحملات، وأن قدرته على إرضاء القارئ الباحث عن "فشار صحفي يومي" ستكفل له البقاء على قمة الهرم الصحفي، في بلد ظلت صحافته تتقزم بشكل محزن، حتى أصبحت ترقد على رجاء القيامة. 

....

غداً بإذن الله

الصفحة الرابعة: إبراهيم سعدة طفل النظام المعجزة  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.