ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (الأخيرة)

ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (الأخيرة)

05 مارس 2019
+ الخط -
عقب توليه مسئولية رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار التحرير أثبت سمير رجب خلال وقت قصير أنه قادر على أن يستغل نفوذه في المؤسسة بشكل مختلف عن كافة أشكال استغلال النفوذ التي كان يمارسها زملاؤه السابقون والمعاصرون من رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير، وكان من أكثر ما فعله فجاجة تعيينه موظفاً بالاستعلامات كمحرر بقسم الحوادث بصحيفة (المساء) التي ظل سمير رجب يرأس تحريرها، ولم يفهم الكثيرون سر ذلك التعيين، إلا حين اتضح أن مهمة ذلك الموظف هو أن "يبطح" نفسه عند اللزوم، ويحدث في رأسه إصابات بالغة، يحرر على أساسها محضراً بقسم الشرطة، لاتهام أي من خصوم سمير رجب بأنه اعتدى عليه وتسبب له في تلك الإصابات، وهو ما فعله المحرر المحترف في عدة مناسبات، مع عدة أشخاص من بينهم نقيب الأطباء الدكتور حمدي السيد ومحمد فريد زكريا وكيل حزب الأحرار وثروت شلبي المحرر القضائي لصحيفة (الأهالي).

لم يكن ذلك المحرر "النطّاح" الوحيد الذي تصبح كل مهامه الصحفية، مرتبطة برغبات وأحلام سعادة رئيس مجلس الإدارة، فقد كان هناك محرر آخر تم تكليفه بمتابعة أعمال تشطيب شقق سمير رجب وفيلته التي كان يذهب إلى زيارتها في موكب يتقدمه موتوسيكل شرطي بزعم حراسته من الإرهاب، كما كان هناك محرر آخر ـ أصبح فيما بعد رئيساً لتحرير صحيفة (مصر الفتاة) ـ مسئولاً عن متابعة أعمال بناء وتشطيب مقبرة الحاجة سيدة صالح والدة سمير رجب بالقطامية، والتي تمكن سمير رجب من استخدام نفوذه في تغيير اسم مسجد الحاج أحمد حمدي، ليحمل المسجد اسم المرحومة والدته، بدلاً من الإنفاق على بناء مسجد جديد يحمل اسمها، وهو ما ظل الكثيرون يتعاملون معه بوصفه "تشنيعة" مبالغاً فيها، إلى أن نشرت الصحف المعارضة نص الوثيقة الرسمية التي تفيد بذلك، والتي صدرت عن وزارة الأوقاف بتاريخ 11 سبتمبر 1993.

استفاد سمير رجب من تجربة زميله الأكبر إبراهيم سعدة في استخدام صحف مؤسسته لتصفية حساباته الخاصة، فحرص على أن يكشر عن أنيابه في مواجهة من يتأخرون في منحه ما يريد، وكان من أوائل هؤلاء وأشهرهم المذيع أحمد سمير المسئول عن البرامج الإخبارية في التلفزيون المصري، والذي لم يقم باستضافة سمير رجب كمحلل سياسي ومعلق على الأخبار، فقامت صحف دار التحرير بمهاجمة أحمد سمير وزوجته المذيعة سهير شلبي، وتم اتهامهما بتحويل التلفزيون إلى عزبة خاصة لتحقيق مصالحهما، لتتوقف الحملة التي شارك فيها محررو التلفزيون في صحف المؤسسة، بمجرد أن استضافت سهير شلبي سمير رجب في برنامجها (دردشة) ليحكي عن تجاربه في الحياة ويقدم نصائحه للأجيال الشابة، وبدأ أحمد سمير يستضيفه في برامجه الأخبارية بوصفه محللاً استراتيجياً عليماً ببواطن الأمور، وحين ارتكب المذيع المخضرم محمود سلطان جريمة اختصار حديث لسمير رجب في برنامج كان يقدمه بمناسبة عيد الشرطة، شن عليه سمير رجب حملة شرسة في عدد من إصدارات المؤسسة التي تخصصت لانتقاد البرامج التي يقدمها محمود سلطان، وهو ما استفز عصام رفعت رئيس تحرير مجلة (الأهرام الاقتصادي) الذي وصف ذلك الهجوم بأنه استغلال لمصالح شخصية، فقام سمير بتوسيع معركته لتشمل عصام رفعت الذي وجد نفسه متهماً بالتربح لأنه يقدم برنامجاً اقتصادياً في التلفزيون، ليدرك مذيعو البرامج ومخرجوها أن الطريق إلى إشادة صفحات التلفزيون في إصدارات مؤسسة دار التحرير ببرامجهم هو استضافة سمير رجب في برامجهم، فتسابقوا لاستضافته فيها عمّال على بطّال، لتتوالى إشاداته بصفوت الشريف وزير الإعلام ومسئولي الإذاعة والتلفزيون، وحين مرت كل هذه التصرفات دون حساب ولا عقاب، أصبحت سنة كريهة تسير عليها كافة الصحف والمجلات الحكومية، خاصة أن سمير رجب بعد كل ما فعله، لم يعد فقط مسئولاً عن دار التحرير، بل أصبح رئيساً لتحرير (مايو) صحيفة الحزب الوطني الحاكم، والتي مارس فيها فرد عضلاته على كل من يدوس له على طرف، فحين تخلف مثلاً الدكتور ممدوح البلتاجي أمين الحزب الوطني بالقاهرة عن حضور ندوة لصحيفة (الكورة والملاعب) شن سمير رجب عليه حملة في صحيفة (مايو) ليوصل إليه رسالة شديدة اللهجة، أنه قادر على أن يهاجمه في صحيفة الحزب الذي هو واحد من أبرز قياداته.


قرر سمير رجب أن يقوم بتطوير المنهج الذي بدأه في صفحة السياحة والطيران في عهد محسن محمد، ليكون منهجاً تسير عليه إصدارات دار التحرير في جلب الإعلانات بالبلطجة الصريحة والابتزاز السافر، وهو ما وصل إلى أقصى حد في الفجور، حين تأخر سيد جريشة رئيس مجلس إدارة مؤسسة عمر أفندي في نشر إعلانات في إصدارات المؤسسة، لأنه رأى عدم جدوى ذلك اقتصادياً، فنشر سمير رجب إعلاناً في الصفحة الأولى للجمهورية جاءت فيه العبارة الآتية: "حكاية سيد جريشة الأسبوع القادم"، ووصلت الرسالة إلى سيد جريشة بسرعة ووضوح، ليبدأ في العدد الصادر يوم الثلاثاء 11 فبراير 1992 نشر إعلانات عمر أفندي على الصفحة الأولى من الجمهورية والمساء، دون نشر كلمة واحدة عن حكاية سيد جريشة الموعودة، دون أن ينشغل أحد بتبرير الأمر للقارئ الذي كان سمير رجب واضحاً في احتقاره، لانه كان يعرف جيداً أن قارئه الأهم اسمه حسني مبارك، وطالما ظل ذلك القارئ راضياً عنه فلا يهمه أن يغضب منه أحد، لأن رضا ذلك القارئ الأوحد سيساعده على أن يتجنب أي أخطاء أو كوارث ترصدها المؤسسات الرقابية وتكتبها تقارير الأجهزة الأمنية.

لكن ذلك لم يمنع سمير رجب من التشبيك مع كل الأجهزة والمؤسسات التي يخشى غضبها، لكي تغض الطرف عن طريقته في تأمين الإعلانات التي صارت ماركة مسجلة ومنهجاً تتبعه الكثير من الصحف والمجلات الحكومية، دون أن تخشى غضب الأجهزة التي يفترض أنها معنية بمكافحة الفساد واستغلال النفوذ، ولم يكن غريباً أن يحدث ذلك، والكل يرى سمير رجب وهو يوثق علاقاته بكبار مسئولي الدولة بدءاً من سوزان مبارك التي أنشأ لنفاقها مهرجاناً خاصاً أطلق عليه مهرجان الإدارة والتحدي، وانتهاءاً بأصغر رئيس مجلس إدارة شركة قابضة، مروراً بوزراء الداخلية وعلى رأسهم سليط اللسان زكي بدر الذي كان يعلق له صورة كبيرة في مكتبه إلى جوار صورة رئيس الجمهورية، وحين تمت الإطاحة بزكي بدر فجأة بعد أن تزايد ما يسببه من صداع للنظام، قرر سمير رجب أن يكتفي بتعليق صور حسني مبارك الذي يُغيّر ولا يتغيّر.

لم تنجح كل الوثائق والوقائع التي نشرها مصطفى بكري في كتابه (ظاهرة سمير رجب)، في إقناع الأجهزة الرقابية بفتح ملفات فساد سمير رجب، الذي حرص على تحويل الكثير من المحررين المختصين بمتابعة شئون الوزارات والمؤسسات إلى مندوبي إعلانات ومسئولي اتصال مع الوزراء ورؤساء مجالس الإدارات، ليبدأ في شن حملات شرسة على أي وزير يرفض سياسة الابتزاز المستفزة، وكان من أشهر ضحاياه الوزير المخضرم المهندس حسب الله الكفراوي الذي ظل يشن عليه حملات شرسة طيلة سنوات، وحين تمت الإطاحة به وجاء بدلاً منه الدكتور محمد إبراهيم سليمان الذي كان سمير رجب قد عيّنه مستشاراً للمؤسسة قبل سنوات، استغل سمير رجب ذلك في تأكيد نفوذه السياسي، وتحذير أي مسئول يرفض طلباته في أنه قادر على الإطاحة به، كما أطاح بحسب الله الكفراوي الذي لم يشفع له كل ما قام به من مشروعات كان النظام يتباهى بها ويعتبرها أهم ما أنجزه حسني مبارك منذ جاء إلى الحكم.

كان كثير من السياسيين والكتاب المعارضين يتصورون أن ممارسات سمير رجب المستفزة، تشكل فرصة ذهبية لإحراج النظام وضرب مصداقيته، لذلك لم يكن غريباً أن تقوم الصحف الحزبية بتغطية المشادة الكلامية الصاخبة التي وقعت في نوفمبر 1993 والتي قام بها محمد حسين نائب أسيوط عن الحزب الوطني مع الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، حين أصر سرور على قراءة خطاب جاءه من سمير رجب للرد على بيان قدمه البدري فرغلي يتساءل عن سر دعم محمد إبراهيم سليمان لسمير رجب في انتخابات مجلس الشعب بمنحه 500 شقة من شقق الإسكان الحكومي ليستخدمها في معركته الانتخابية في نادي (الشمس)، ومع أن قراءة خطاب سمير رجب تحت القبة كان أمراً مخالفاً للائحة المجلس، إلا أن فتحي سرور أصر على قراءة الخطاب، لكي لا تناله تلميحات ولمزات من سمير رجب في عموده الذي مارس فيه أسلوب "الكتابة بالسيم" على أكمل وجه، ودأب على نشر إشاعات وتشنيعات تخص كبار مسئولي الدولة الذين يضايقونه مستخدماً الأحرف الأولى من أسمائهم للإفلات من المسائلة القانونية. وحين استفز تصرف فتحي سرور كثيراً من النواب وعلى رأسهم نائب الحزب الوطني محمد حسين الذي انفعل بشكل غير مسبوق، التقطت انفعاله صحف المعارضة التي بدأت تسأل عن سر نفوذ سمير رجب، لدرجة أن صحيفة (الشعب) خرجت بعنوان عريض يقول: "سمير رجب يحكم مصر"، وتساؤل أثاره أبرز قادة حزب العمل الدكتور محمد حلمي مراد عن سر قوة سمير رجب وظاهرته المثيرة للعجب، كما تحدث جمال بدوي في (الوفد) عن مرشح الدولة المدلل، لكن ذلك وغيره لم يؤثر في حماس سمير رجب واندفاعه لمهاجمة محمد عبد المنعم الملاح مرشحه المنافس على رئاسة نادي الشمس، والذي كان هو الآخر يتسابق على إعلان تأييد النظام وتنبيه النظام إلى خطورة سمير رجب عليه.


كان سمير رجب حريصاً على أن يعلن في كل مؤتمراته الانتخابية في نادي الشمس، أن الرئيس حسني مبارك شخصياً راض عن ترشيحه ويدعمه، وكان معتمداً على أن النظام لن ينسى له كل ما بذله من مجهودات في الهجوم على أعداء النظام، حتى الذين كان غيره من أبواق النظام يتحرج ويخجل من مهاجمتهم، مثل الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذي لم يكن قلماً معارضاً صريحاً، لكن آراءه المستقلة والمثيرة لاحترام وإعجاب الكثيرين، كانت تزعج النظام الذي لم يعد يكتفي بما كان يكتبه موسى صبري وغيره من نقد لاذع منضبط لمقالات أحمد بهاء الدين، فأدخل إلى ساحة المعركة سمير رجب الذي بدأ في ممارسة الردح والتشليق ضد أحمد بهاء الدين، وكان من المضحكات المبكيات ضمن ما كتبه، أنه اتهم أحمد بهاء الدين بخداع القراء لأنه يكتب باسم أحمد بهاء الدين، مع أن اسمه في الحقيقة أحمد عبد العال شحاتة، ولم تتوقف حملات سمير رجب إلا بعد أن أصيب أحمد بهاء الدين بمرض عضال منعه من الكتابة، وأراح النظام من كلماته المزعجة التي كان ينشرها من حين لآخر في عموده اليومي بصحيفة (الأهرام).

كان من المثير للسخرية المختلطة بالأسى، أن ترى الفرحة العارمة التي انتابت الكثير من الكتاب الحكوميين والمستقلين والمعارضين، حين طلب النظام من سمير رجب أن يسحب ترشيحه من انتخابات رئاسة نادي الشمس، وهو ما تكرر حين رفض النظام طلب سمير رجب بالترشح كنقيب للصحفيين، وأعلن دعمه لمكرم محمد أحمد في انتخابات النقابة، بعد فترة من احتدام المواجهة بين النظام والصحفيين بسبب رغبة الحكومة في تغليظ العقوبات على الصحفيين، وهي المعركة التي كسبها الصحفيون بعد توحدهم ضد رغبة الحكومة، بشكل غير مسبوق أجبر الكثير من مؤيدي النظام على تغيير مواقفهم والانصياع لرغبة الصحفيين الشباب في إيقاف ذلك التعديل، وهي معركة تبدو الآن بعيدة جداً جداً عن الواقع المزري الذي تعيشه مهنة الصحافة، خاصة أن كثيراً ممن شاركوا فيها آنذاك، لم يجدوا أدنى مشكلة في تأييد الإجراءات القمعية التي اتبعها نظام السيسي ضد الكثير من الأقلام والأصوات التي تم وصفها بأنها إخوانية أو موالية للإخوان أو منتمية إلى الطابور الخامس الذي يتآمر على الدولة المصرية.

لذلك ولذلك كله، لا يستطيع عاقل أن يفصل الحالة المزرية التي وصلت إليها الصحافة المصرية الآن، بالحالة التي عاشتها الصحافة المصرية طيلة العقود الماضية، وهي الحالة التي جعلت كثيراً من السياسيين والصحفيين يثنون على رشادة النظام، لأنه أجبر سمير رجب على أن يسحب ترشيحه لرئاسة نادي الشمس أو ينسى رغبته في أن يكون نقيباً للصحفيين، ليكتفي بأن يكون رئيساً لمجلس إدارة جريدة الجمهورية ورئيساً لتحرير صحيفتي المساء ومايو ومسئولاً عن صحيفتي الإيجيبشيان جازيت والبروجريه إجيبسيان اليوميتين، ورئيساً لتحرير مجلة حريتي ومجلة العلم وصحيفة عقيدتي التي رفع لها شعاراً مضحكاً مبكياً هو "تنقية العقيدة من الشوائب"، قبل أن يقوم بضم رئاسة تحرير صحيفة (الجمهورية) إلى قائمة مقتنياته الصحفية في وقت لاحق، وحين قرر النظام أن يتخلى عن كل رجاله المخلصين وعلى رأسهم سمير رجب وإبراهيم سعدة وإبراهيم نافع، ويأتي بأسماء اقترحتها لجنة السياسات التي كانت تعتبر طريق جمال مبارك المأمول للوصول إلى رئاسة الجمهورية، كان من المثير للسخرية المبكية أن تشاهد من يثني على قرار النظام دون أن يقضي بعض الوقت في تأمل الأسماء التي تم اختيارها لتخلف رجال الحرس القديم، والتي لم تحتج إلى الكثير من الوقت، لكي تثبت أنها قادرة على أن تحقق للنظام كل المميزات التي كان يقدمها له رجاله القدامى، ولكن بسعر أرخص وبامتيازات أقل ولو إلى حين.

كان من الملفت بعد قيام ثورة يناير وما أعقبها من تداعيات أوصلت سمير رجب وإبراهيم نافع وإبراهيم سعدة وغيرهم إلى جهاز الكسب غير المشروع، وفتحت ملفات فسادهم المالي والإداري، وجعلتهم مهددين ولو إلى حين بالسجن والمحاكمة، أن ترى من يكتب عن الدور التخريبي الذي مارسته هذه الأسماء في ساحة الصحافة المصرية، لكنه في الوقت نفسه يترحم على الأسماء التي سبقتهم في مناصبهم، مركزاً على فرق الكفاءة الصحفية وبراعة الكتابة، الذي هو بالتأكيد لمصلحة أسماء مثل محمد حسنين هيكل وموسى صبري وأنيس منصور، لكن هؤلاء يتناسون أن مشكلة الصحافة المصرية الأبرز كانت في فقدانها لاستقلاليتها الإدارية، والتي حولتها بالضرورة إلى بوق لخدمة النظام وحاكمه، لأن اهتمام رؤساء التحرير أياً كانت مهارتهم وبراعتهم في الكتابة، لم يعد منصباً على القراء الذين يقومون بشراء الصحف والمجلات، ويضمنون انتشارها وتوزيعها، لتتمكن من جلب الإعلانات التي يحرص فيها المعلنون على الوصول إلى جمهور أوسع، بل أصبح اهتمام رؤساء التحرير متركزاً على قارئ وحيد، أو على قائمة قصيرة للغاية من القراء يمكن اختصارها في نهاية المطاف في قارئ وحيد هو رئيس الجمهورية.

وإذا كنا حريصين على تأمل أحوال الصحافة المصرية، أملاً في بعثها من مرقدها الآن على رجاء القيامة، لا يمكن أن نغفل أن ما وصلت إليه الصحافة المصرية من أحوال مزرية الآن، بدأ يتشكل في اللحظة التي تفاخر فيها رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر، بأن كاتباً شديد الأهمية والبراعة مثل محمد حسنين هيكل، يقوم في مناسبة مهمة مثل مؤتمر باندونج بتوفير الأخبار الخاصة والمهمة للرئيس، في حين يقوم زملاؤه بتوفير الأخبار للقارئ، وهو ما يجب أن ينتج عنه بالضرورة حرص جميع الصحفيين على التسابق إلى خدمة رئيس الجمهورية أو من ينوب عنه، مقتنعين بما كان هيكل نفسه مقتنعاً به، وهو أنه يفعل ذلك لخدمة الوطن الصاعد في مواجهة القوى المتآمرة على الوطن، وهو منطق استخدمه من بعده ـ بغض النظر عن النوايا والكفاءات ـ كل رؤساء التحرير الذين انشغلوا برضا رئيس الدولة وأجهزته عن رضا القراء.

لذلك لم يكن غريباً أن نرى كيف تعامل الكثيرون مع المقالات التي تطالب بتعديل الدستور، والتي كتبها ياسر رزق رئيس مجلس إدارة مؤسسة (أخبار اليوم)، والمشهور بصلاته الوثيقة بالرئيس عبد الفتاح السيسي، بوصفها رسائل صريحة يوجهها نظام عبد الفتاح السيسي إلى أهمية تعديل الدستور للإبقاء على السيسي في الحكم فترة أطول أو ربما مدى الحياة، وحين قرر ياسر رزق أن يرد على تلك الآراء، لم يجد مشكلة في أن يكتب قائلاً: "وبصراحة لا أجد ما يقدح في شخصي ككاتب ينتمي إلى نظام 30 يونيو، أن أمهد إذا لزم الأمر لتعديلات دستورية أو إجراءات ذات شأن وطني، أو أن اتداول مع صناع القرار أو صاحب القرار ذاته للاستنارة قبل طرح موضوعات ذات حساسية لتجنب إحداث تأثيرات سلبية غير مرغوب فيها على المصلحة الوطنية"، وهي عبارات قاطعة واضحة، ليس غريباً أن يبدأ في كتابتها باستخدام تعبير (بصراحة) الذي كان عنواناً يكتب تحته محمد حسنين هيكل على مدى سنوات، ما كان ملايين القراء لا يعتبرونه رأياً يخص هيكل وحده، بل رأياً يعبر عن جمال عبد الناصر استعان فيه بهيكل كصائغ لأفكاره، مثلما كان يستعين به لصياغة خطبه وكتبه، وهو منهج تواصل بعد هيكل بحذافيره، وحين تواضعت إمكانيات رئيس الدولة، فتواضعت اختياراته لمن يستعين به لصياغة خطبه وكتبه بشكل مخجل، جعل الكثيرين يظنون للأسف أن المشكلة في الإمكانيات والمهارات وليس في المنهج والعقلية.

لكن ذلك في نهاية المطاف لم يكن ليتحقق لولا أن ملايين المواطنين صدقوا في الماضي، أن قيام رئيس الدولة بتأميم الصحافة وحرمانهم من استقلاليتها، هو حماية لهم كقراء من المؤامرات الدولية التي تشارك فيها الصحافة الحرة والمستقلة، وهم أيضاً الذين صدقوا أن بقاء الرئيس على كرسيه دون رقابة ولا محاسبة، هو حفاظ على الدولة التي ستنهار من بعده وبدونه، وكثير من أبناء وأحفاد هؤلاء يكررون الآن خطايا آبائهم وأجدادهم في الماضي، حين يتأسفون على ما وصلت إليه الصحافة المصرية من انحدار وتدهور، ويترحمون على زمن الاستبداد الواعي العاقل، متناسين أنه حين يعمل الصحفي في خدمة النظام الحاكم تحت أي مبرر أو أي سبب، وحين لا تمارس الصحافة دورها الحر المستقل في الرقابة على ما يقوم به أصحاب النفوذ والسلطة، فإن ما يبدأ بمحمد حسنين هيكل سينتهي حتماً بما هو أسوأ من سمير رجب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.