ما وراء الاستشراق: المرأة والفنّ

ما وراء الاستشراق: المرأة والفنّ

18 نوفمبر 2014
+ الخط -
أنعيشُ مرحلة استشراق داخلي؟ وهل الاستشراق هو آخر الشرق المنبوذ؟ أشار إدوارد سعيد في تذييل الطبعة العربية من كتابه الاستشراق: أنّ كتابه صار عدّة كتب، وانفلت من مقاصده الأولى، وأنه ليس كتابًا معاديًا للغرب ومدافعًا عن الشرق والإسلام، لأنّ صاحبه لا يؤمن بالجوهرانية. أمّا الخطيبي فقد أصدر كتابه "الجسد الشرقي" الذي لا يقطع نهائيًا لا شكلًا ولا مضمونًا مع "الفكرة" الشرقية.

بينما تبدو فاطمة المرنيسي - المنتقدة بصرامة للنظرة الاستشراقية للمرأة العربية - أقرب إلى تأدّية دور المرأة الشرقية المثقّفة في فضاء تقليدي ما أن تدخل إلى مجال التخييل. 

ليس من قبيل المصادفة إذن، أن تكون مسألة نقد الاستشراق مسألةً إيديولوجية لدى الكتّاب والمفكرين من الرجال، ومسألة "جمالية" لدى الكتّاب والمفكرين والفنّانين من النساء. فالكتّاب الذكور انتقدوا الاستشراق من الخارج، بينما مارست النساء -الفنّانات منهن خصوصًا- نقدهنّ له من الخارج والداخل معًا، أي من خلال تفكيكٍ مزدوجٍ لم ينتبه له حتّى الخطيبي في حملتهِ الجامحة على أحد أكبرِ مصادر المعرفة عن العرب والمغرب العربي، أي جاك بيرك. 

في سنة 1997، أصدرت المجلة الألمانية النسويّة AB عددًا خاصًا عن المرنيسي بعنوان: "اندثار الشرق، الحريم الأبوي يغدو المجتمع المدني الأمومي". لن ندخل في تحليل التصورّ العام أو نقده لعالمة الاجتماع التي تميّزت منذ صدور "الجنس في الإسلام"، بنوعٍ من النزعة النسوية التي كثيرًا ما تعيد إنتاج ما تنقده. ما يهمنا، أنها قدّمت بشكلٍ غير مباشر للفنّ العربي المعاصر، مدخَله إلى إعادة تملّك الاستشراق من خلال ما يمكن تسميته بـ "منجزات performances فاطمة المرنيسي".

اكتشفت المرنيسي المثقّفة في نفسها القدرة على ما يسمى في المسعى الإثنوميتودولوجي بالاندماج الذاتي في الموضوع، حين مثّلت في فيلمٍ كوميدي (البحث عن زوج امرأتي، إخراج محمّد عبد الرحمن التازي)، وهو الشعار الذي يتوافق مع شعار المجلة: "الشؤون الشخصيّة سياسية، والسياسة مسألة شخصية".

فنشرَتِ المجلة مجموعة صورٍ تبدو فيها المرنيسي في جوٍ مخملي شبيه بجوِ ألف ليلة وليلة، تارةً تديرُ ظهرها، وتارةً تتحدث مع أخريات بالتهامس والضحك، وتارة تتحدّث بالهاتف. في صورتها وهي تدير ظهرها، نجد في خلفية المشهد جهاز تلفاز يبثّ من القناة الإخبارية البريطانية "بي بي سي". وفي صورة أخرى، تبدو الكاتبة في وضعية الغانية، متزينة بلباسٍ تقليدي ثقيل، وهي تمسك باهتمام مجلة أميركية.

إذ يبدو أن عالمة الاجتماع، وهي تنزاح تدريجيًا عن الطابع السوسيولوجي الصارم للبحث وتدخل منذ كتاب "الجنس والإيديولوجيا والإسلام" سنة 1974، في منزع نسوي سيجرّها للكتابة عن النبي والسياسة والنساء، ثم عن السلطانات المنسيات، وعن شهرزاد الإسلام وأحلام النساء. ستغدو روائية وفناّنة على طريقتها، خاصّة وأن اشتغالها على النساء المهمّشات في جبال الأطلس المغربية جعلها تندرج في ضرب من "التدخل الاجتماعي والجمالي" في الآن نفسه. في هذه التجربة التي تنتقد الاستشراق بشكل مزدوج (نسويًا وسوسيولوجيًا) تكاد المرنيسي أن تبيح لنفسها ما تحرّمه على الآخر: أعني محاكاةَ الاستشراق وخلق بنيةٍ استشراقيةٍ داخليةٍ محكومة بنسقٍ مغايرٍ من القيم، وإن بالإطار نفسه.

إنها تخلق المفارقة في بنية المرأة الاستيهامية، موضوع الحريم الاستشراقي: فهي تجعل منها تقليديةَ المظهر، لكن دينامية الفكر. بين المرأة القروية التي ترصدها، والمرأة التي تبتكرها من ذاتها في الصورة، ثمّة مسافة هي مسافة السعي إلى تفكيك مفهوم الحريم عبر الرغبة في الاستحواذ المباشرعلى مكوّنات عالمه. لا يتمّ تحرير الحريم من الاستيهام الاستشراقي لدى المرنيسي إلا عبر عالم الفكر والثقافة. 

ولم تلبث العدوى أن بلغت الفنّانين وبالأخص الفنّانات، الأكثر منهم ومنهن وعيًا وانفتاحًا على القضايا الشائكة. بيد أن لا أحد من الفنّانات والفنانين، أحال إلى لعبة المرنيسي مع الاستشراق التي بدأتها مبكّرًا. أيتعلّق الأمر بأرخبيلية الثقافة العربية، أم بكون نقد الاستشراق في رحلته الثانية، صار عملية سباق ضدّ الزمن؟ 

في كل الأحوال، انتقلتِ العدوى إلى مجال الفنون البصرية من خلال استكشاف النظرة الاستشراقية، لا عبر وسيطها "الطبيعي" أي اللوحة، بل عبر الصورة الفوتوغرافية. فكان أن نظمت الفنّانة التونسية مريم بودربالة سنة 2006معرضًا مهمًّا كان المنطلق لحملة جديدة لاستكشاف الاستشراق من وجهة نظرٍ مخالِفة لرباعيي النقّاد (سعيد والخطيبي وعلولة والمرنيسي) وقريبة منهم في الآن نفسه.

أعدّ هذا المعرض، المنطلق الفنّي المعاصر لمواجهة الاستشراق بصريًا من غير عداء إيديولوجي: فالفنّانة تنطلق، عبر أعمالها المستمدّة من مرايا جسدها، من مواجهةٍ بصريةٍ غير خصامية مع الصور الفوتوغرافية للسويسري المحترف رودلف لينهرت، (الذي ترك إرثًا مهمًّا عن تونس وناسها ومناظرها وآثارها). تتخذ هذه المواجهة، شكل مشهدة لجسدها مدثّرًا في أثواب شفّافة بحيث يتضاعف في جميع الاتجاهات، خالقًا ضربًا من الضبابية الحسيّة البصريّة. 

في السياق نفسه، تقوم المغربية للا السعيدي بترجمة تجربتها الشخصية في شكل كيانات أشبه بالغانيات والوصيفات، متموضعة في شكل استلقاء وخمول، فتدثّر الجسد بما يشبه الحروفيّة، كذا تفعل المغربية ماجدة الخطاري، التي تشتغل بشكلٍ أكثر معاصرة على الحريم وعلى الغانية لتمنحنا مشاهد فوتوغرافية يتجاور فيها النقد بالتملك. 

هذه الرغبة في إعادة النظر في الاستشراق وتملّكه من الداخل، تجعل الفنّ اليوم بوابةً نقديةً كبرى تشكّل طليعة تجدُّد الفكر العربي وإعادة ابتكاره لتاريخه ولتاريخ أسئلته الحارقة.

المساهمون