ما مشكلة سُنّة العراق؟

08 يوليو 2014

عشائر في الرمادي تتظاهر ضد سياسة المالكي (ديسمبر/2012/فرانس برس)

+ الخط -

سيطر حزب البعث على السلطة في العراق قبل سقوطه منذ مطلع الستينيات، وكان يحكم منفرداً، بمعاونة عشائر عربية سُنية كانت مُنخرطة في السلك العسكري، وكانت تستفيد من امتيازات النظام، وكان التمرد على النظام البعثي دائماً ما يأتي من الشيعة والأكراد. فقد كانت هاتان الجماعتان تشعران بالتهميش والتمييز، لكن العراق، في ظل حزب البعث، لم يكن طائفياً بالمعنى الدقيق المتعارف عليه الآن، حيث المحاصصة هي شكل نظام الحكم الرسمي.

بعد سقوط حكم البعث 2003، تم تشكيل مجلس للحكم تحت إشراف الاحتلال الأميركي البريطاني، وكانت أغلبية أعضائه من المعارضة السابقة لنظام البعث، والتي كما سبق وأشرنا، هي في غالبيتها، شيعة أو كرد، وكان الحضور السُني موجوداً، لكنه قليل التأثير. نجح الاحتلال في هذه الفترة الانتقالية في تثبيت أركان النظام الطائفي، فهيمنت، بطبيعة الحال، الأحزاب الشيعية على السلطة السياسية، بالتشارك مع الأكراد، وبعض الشخصيات السُنية التي كانت تعارض دولة البعث بقيادة صدام حسين.

بعد عشر سنوات من مقاومة الاحتلال الأجنبي للعراق، قررت القوات الغازية الانسحاب منه،

مخلفةً وراءها مجتمعاً مفككاً، وطغمة طائفية فاسدة، وجماعات انتحارية تجوب الشوارع، واحتراباً أهلياً لا يكاد يتوقف، حتى يُستأنف من جديد. أما رئيس الوزراء، نوري المالكي، فقد كان يسعى إلى الهيمنة على السلطة، وضمان الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية، خصوصاً، بعد فوزه بأكثرية برلمانية في الانتخابات الأخيرة، ظناً منه بأن القبض على مفاصل الدولة سيجعل منهُ صداماً آخر، وأنه سيؤمَن لنظامه الاستقرار والديمومة، لكن المالكي بالغ في تقدير قوته، وقوة خصومه.
ما حدث هو العكس تماماً، ما إن تأكد للقوى المعارضة للمالكي بأنه مستمر في الحكم، حتى تمردت العشائر العربية السُنية، مدججة بمقاتلين من "داعش" وقيادات بعثية سابقة، وراحت تسيطر على المناطق التي يُشكل السُنة فيها أغلبية سكانية، لكي تضغط على حكومة المالكي.

لكن، لهذه الحكاية ظاهرٌ وباطن. من ظاهر القول الذي يصدر عن السياسيين العراقيين هذه الأيام، سواء في المعارضة أو في السلطة، تبدو الأزمة العراقية، وكأنها أزمة تهميش للجماعة العربية السُنية من السلطة، مقابل استحواذ للجماعات السياسية الشيعية على الحكم، لكن الحقيقة أن الأزمة أعمق من مجرد مناصب سياسية أو عسكرية، أو حصة وازنة في السلطة، وإن كان هذا ظاهر الكلام.

يعتقد كثيرون أن التهميش مشكلة إجرائية، أو قانونية فقط، بمعنى أن إقرار المساواة أمام القانون، وإتاحة المجال لأبناء الأقلية بالوصول للفرص تُنهي المشكلة، وإن وجود بعض الشخصيات السُنية في مناصب عليا، أو السماح للعرب السُنة في الانخراط في القوات النظامية، وتبوء مناصب قيادية فيها سيُنهي المشكلة الطائفية في العراق، لكن هؤلاء يجهلون حقيقة أن مشكلة السنة في العراق أعمق من ذلك بكثير، وأنها أزمة تتعلق بهوية الدولة العراقية الجديدة، وطبيعة تحالفاتها وعلاقاتها بجيرانها.

صُبغت الهوية الجديدة لعراق ما بعد البعث بصبغة شيعية دامغة، إن من خلال نظام المحاصصة الذي يعكس الكتل السكانية وحجم الأغلبية مقابل الأقلية، أو من خلال تقديم الرموز الشيعية في مؤسسات الدولة، كالإعلام والتعليم والأعياد والاحتفالات الخاصة بالشيعة. وقد تعمد نوري المالكي المبالغة فيها، من أجل إرضاء الشيعة وضمان صبرهم عليه، وكذلك لإخفاء فشله في تحقيق إنجازات مهمة في الأمن أو الخدمات العامة.

في الوقت الذي يعتقد فيه معظم العرب السُنة أن العراق أصبح أحادي الهوية، وأن العراق الذي يعرفونه تم اختطافه، وإنه، بشكله الحالي، لا يمثلهم، ولهذا، نُلاحظ كثرة استرجاع هؤلاء صور صدام حسين، العدو التاريخي للشيعة، والإكثار من لغة التخوين. ولا يقتصر خطاب المعارضة السُنية السياسي على المطالبة بالمساواة في الفرص فقط، وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك، فلو كانت المسألة تقتصر على حصة في السلطة، لما شاهدنا هذا التركيز على الدور الإيراني وتغوله في البلد، وإن العراق لا بد من تحريره من يد الصفويين المحتلين، في إشارة واضحة، لا تخطئها العين لضرب هوية الدولة ولطبيعة تحالفاتها الجديدة، خصوصاً، ونحن نعرف أن عراقيين كثيرين يحتفظون بذكريات الحرب الدامية التي دامت ثماني سنوات مع الجار (العدو).

للأسف، تم تقسيم العراق الجديد إلى أغلبية وأقلية مذهبية، وهذه الأكثرية الديموغرافية غير قابلة للتبدل والتغير، كما الأغلبية السياسية في المجتمعات الديمقراطية. وعليه، ستحافظ الإشكالية الحالية على ديمومتها، ما دام البلد مقسماً طائفياً. إذن، مشكلة السُنة العرب لا يمكن أن تُختزل فقط في الحصول على حصة معتبرة في النظام السياسي، بقدر ما هو شعور متنام بالخطر من تغير هوية الدولة لصالح دولة شيعية، ومطالبة باعتراف الدولة بوجودهم. وعليه، فإن أي محاولة لعلاج هذه القضية، بزيادة حصة السُنة في سلطة النظام الطائفي من دون إعادة هندسة هويته لن تثمر عنها أي نتيجة إيجابية.

يعاني العراق الجديد من أزمة هوية حادة، ولا يبدو أن أحداً من أطراف النزاع قادر على إفناء الآخر، على الرغم من كل المحاولات الحثيثة التي جُربت في الحرب الطائفية التي تدور في شوارعه؛ وعليه، فإن أي تسوية سياسية لا تضع نُصب عينيها معالجة أزمة هوية الدولة العراقية، لن تقدم أكثر من تأجيل الصراع الهوياتي، لا القضاء عليه.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"