ما لم تقله نظرية "أسلمة التطرف"

ما لم تقله نظرية "أسلمة التطرف"

13 ديسمبر 2015

من مسيرة مسلمين في روما بعنوان"ليس باسمنا" (21 نوفمبر/2015/Getty)

+ الخط -
تتزايد، في الفترة الأخيرة، المساهمات الأكاديمية (وهذا إيجابي) في محاولة للإدلاء برأي ما عن الأسباب والمسؤولية وراء المأساة التي عاشتها فرنسا مجدداً في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. قدم الباحث المعروف، صاحب كتاب "الجهل المقدس"، أوليفيه روا، في صحيفة لوموند في 24 نوفمبر 2015، وجهة نظر تشبه الروايات، وشهدت ترحيباً قوياً، فهي تعيد التأكيد بإيجاز على أنّ المقاربة الثقافوية المسيطرة تافهة (الحق على الإسلام... "من الأمويين إلى تنظيم الدولة الإسلامية"، كانت مانشيت جريدة "ماريان" الفرنسية الأسبوعية في أول عدد لها بعد 13 نوفمبر). وبشكل رئيسي، وفي وجه الطريق المسدود أمام "تطرف الإسلام"، هو يقترح التفكير في خيار آخر: "أسلمة التطرف". كل من يبحثون بشكل يائس عن علاج للمواقف القتالية والخانقة للحرية التي ينتجها الخطاب الثقافوي المسيطر، يهرعون إلى الاصطفاف إلى جانب هذا الخيار. لكن، ومهما تكن نيات روا جديرة بالإطراء، فإنّه لا شك أنّ الثمن التحليلي (وبالتالي الاستراتيجي) لمقاربة مماثلة كبير. في الحقيقة، أرى فيه تعبيراً، للمرة الألف، عن المرض الذي ساهم لعقود في تآكل قدرتنا على بناء مفهوم عقلاني لهذا الإسلام الذي يسميه بعضهم في الوقت عينه "سياسياً"، فيما لا يتركون أي فرصة لـ"نزع السياسي" عن الدوافع المفترضة لفاعليه، تماماً مثل المقاربة الثقافوية! إنّ نظرية "أسلمة التطرف" جذابة، لكني أرى تشخصيها لأمراض اجتماعية أو نفسية، من أجل تفسير جذور تطرف "جهاديينا"، مثل جرعة منهكة وقاتمة من "العبثية" (والتي كان ثوار انتفاضة الديسمبريين الروس هدفاً لها) تُحدث من المشكلات أكثر مما تحل.
لماذا؟ الهدف الرئيسي لهذه النظرية الخاصة بـ"أسلمة التطرف" ليس المقاربة الثقافوية. على العكس، هي ترفض وبتعالٍ، وكمعزوفة عالمثالثية مكررة، مقاربة (ومن دون أي وصمة ازدراء) يعتبرها عديدون منا نقيضاً تاماً: بداية ونهاية لأي مقاربة علمية لظاهرة الجهاديين. واعتبار العالمثالثية غير جديرة بالثقة، هنا، لا يقوم على أقل من رفض الربط (ولا حتى في أدنى مقدار) بين الظواهر المتطرفة الصاعدة في فرنسا وغيرها مع "المعاناة ما بعد الكولونيالية، والتماهي الشبابي مع القضية الفلسطينية، ورفضهم التدخل الغربي في الشرق الأوسط، وإقصائهم من فرنسا العنصرية، والتي تعاني من رهاب الإسلام". نظراً إلى خلفيات مفجري القنابل، يبدو أنّه لا رابط للقنابل التي انفجرت عندنا، وفق هذه النظرية، بفشل الجمهورية في تطبيق الاندماج أو بماضيها الاستعماري، أو سياسات سياسييها في العالم الإسلامي. مع أوليفيه روا، تتجذّر هذه المقاربة في مسار قاده حوالي عشرين عاماً الآن، لإقصاء جزء مهم من العوارض الخاصة بالعودة "الإسلامية" من حقل ديناميات السياسية. ومع عدم وجود أي رغبة لديّ بأن أكون انفعالياً، يبدو من الضروري التركيز على حدود هذه المقاربة الجديدة، وغير الجديدة جداً. في الحقيقة، هي تشارك منافستها الثقافوية ميلاً قاتلاً خاصاً: ذاك الذي يبرّئنا من المسؤولية بشكل أو بآخر. اقرأوا بين السطور مع بعض الانتباه: "اقصفوا قدر ما تشاؤون. قنابلهم لا شأن لها بقنابلنا". سيلتقط حثالة المجتمع الفرنسي الشباب، مسلمون عبر الوراثة أو عبر الهداية، بكل بساطة هذا الأمر عذراً، كما سيلتقطون أي فرصة أخرى، للهرب من كآبة فشلهم الاجتماعي.

"لم يعانوا من الاستعمار؟"
في هذه النظرية الخاصة بأسلمة التطرف (ومع وضع النيات النبيلة جانباً)، تبدو بعض الحجج مغرية بشكل عابر. لكن، هل حقيقة أنّ "جهاديينا" لا يجب أن يكونوا أكبر من "رقم صغير" كي يثوروا تسمح لنا بالرفض بهذا المقدار من الثقة فكرة أنّ انزعاجاً مشابهاً قد يشعر به كل
من لم يندمج، حتى حين يستنكرون هذه الوسائل المستخدمة؟ "لم يعانوا من الاستعمار؟"، هل يتجرأ أحدهم ويطبّق هذا التفكير على مشكلات ونضالات أحفاد اليهود والأرمن الذين لم يشهدوا أو يعيشوا تضحيات جدودهم؟ "إنّ الفجوة العمرية التي تفصلهم عن أهلهم دليل على أنّهم مقطوعون عن المجتمعات المسلمة". لكن، ما الذي يسمح لنا بأن نجزم بكل تأكيد أنّ هذه الفجوة هي قاعدة مطلقة؟ هل نصرف بعض الوقت، لكي نأخذ في الاعتبار أنّ العيّنة التي تُستخدم في مرويات "الرحيل إلى سورية من أجل الجهاد"، مثل التي جمعها، مثلاً، مركز الأنتروبولوجيّة، دينا بوزار، الذي يدعى "المركز من أجل تجنب النزعات المذهبية المرتبطة بالإسلام"، هي فقط العائلات التي طلبت المساعدة بشكل عفوي؟ هل يعلم أي منا شيئاً عن البقية؟ لا بالطبع، ربما لا موقف سوى أنّ الإدانة الشديدة للابن الذي انجر إلى التطرف صعبة سياسياً. بالنسبة لي، لم أضطر للبحث أبعد من مكان إقامتي في "أيكس آن بروفانس"، لإيجاد حالة والد لحق بابنه إلى سورية، حيث قتل الأخير منذ فترة وجيزة، والأب حالياً مصاب بشكل بالغ هناك.

المعزوفة القديمة... لنزع السياسي عن الآخر
بذور تشويه السمعة هذا الخاص بمتغيّر الفاعلين في الإسلام السياسي التفاعلية (والمرتبطة أيضاً بالهوية)، لم تزرعها اعتداءات باريس، هي موجودة في مسار تحليلي طويل من مزور "أسلمة التطرف"، الأمر الذي أرى أنه كلفه بعض التوقعات التي لم تحقق المرجو منها، كما يبدو. منذ العام 1992 (في كتابه "فشل الإسلام السياسي")، اعتقد روا أنّه يمكن له أن يطلق تشخيصاً مفاده بأنّ الحَرْفِيين الإسلاميين (أي "من يشبهون داعش") قد تم تخطيهم بشكلٍ لا عودة عنه. بدأ عهد "ما بعد الإسلاميين". ترادفياً مع جيل كيبل (تنبأ أيضاً، بعد فترة وجيزة من روا، بأفول الإسلاميين النهائي)، عاد روا (في فبراير/ شباط 2011)، وتنبأ (وحاجج: "حين يكون كل شيء دينياً... لا شيء ديني") بالخراب الانتخابي (النهائي هذه المرة) لكل جيل "ما بعد الإسلاميين" ذاك الذي سرعان ما اعتُبر غريباً عن تظاهرات "الربيع العربي". "لماذا عليهم (الناخبين) التصويت لأشخاصٍ لم يكونوا موجودين في أثناء الثورات؟" (...) أشخاص اعتبر أنّهم "ليسوا في مسار الاعتراضات على الإطلاق".
كما نعرف، مزقت الانتخابات المصرية والتونسية هذه التنبؤات (سرعان ما نُسيت) الخاصة بهزيمة ثانية للفزاعة الإسلاموية القديمة إرباً. اليوم، أين تجد هذه التحليلات نفسها محشورة؟ ليس فقط عند الموجة الأخيرة من المجندين الجهاديين الفرنسيين التي وفق روا لا "تعبّر عن
الغضب الإسلامي تجاه الاعتداءت الغربية". في الحقيقة هي، ومهما كانت الجنسية التي ينتمون إليها، كل الفاعلين في جيل القاعدة. في سخط العالم الإسلامي تجاهنا، يصبح الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني نفسه أمراً غير مهم البتة. ما نوع التحليل الذي يسمح بهذه الحقائق الفضولية؟ بالنسبة لروا الذي يطرح هنا فئات غير عملية بالمرة (العراق بوصفه هامشياً)، برزت الرموز الإسلاموية العراقية على "هامش العالم الإسلامي". في كتابه "بحثاً عن الشرق المفقود" (سوي، 2014)، يكتب: "فيما سعى اليمين واليسار على السواء إلى تحويل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى قضية التحشيد الإسلامية الأساسية، فإنّ ضحايا التطرف وأرض معاركه وأهدافه ومناطق تجنيده مناصريه تُظهر أنّ الأمر لم يكن يتعلق بذلك الصراع أبداً".
داخل صفوف داعش، وبعد الإعلان عن انتهاء التنظيم مرتين، منع التماسك النظري أوليفيه روا من تقبّل رؤيتهم كإسلاميين، ولا حتى كفاعلين سياسيين. اضطر لاعتبارهم مخبولين: "مخبولين" تنبأ بسقوطهم في... "أقل من عام". اليوم، مثلاً، أجد صعوبة في إيجاد فضاء أصنّف فيه الأخوين كواشي داخل ملف غير المسيّسين الفاشلين، وهما كانا دقيقين في التعبير عن أهدافهما. بقدر ما يجب رؤية من بين جملة أمور في كوليبالي (منفذ الاعتداء على متجر الطعام اليهودي في يناير/ كانون الثاني 2015) رجل "لا يهتم بالنضالات الأساسية في العالم الإسلامي (فلسطين)". فيما هذه الفرضية تسمح لروا أن يعيد بعض التماسك إلى استنتاجاته الهشة السابقة، فهي، في الحقيقة، تضيف ببساطة قطعة طوب (خاصة بمرض اجتماعي أو حتى نفسي) لبناء يعيد إنتاج الأخطاء نفسها للمقاربة الثقافوية التي يأمل الحلول مكانها: وفي منهج طوعي خطير، يفصل المسرَحَيْن السياسيين، الأوروبي والشرق أوسطي. هكذا، يصبح لدى الأطروحة التي تبرأ سياساتنا الخارجية كل ما يلزمها لتصبح جذابة: من لا يود، بالتالي، أن يسمعها؟
يتخطى هذا النقاش، بالطبع، المشهد الساخر الخاص بـ"المشاجرات بين الاختصاصيين". اسمحوا لي أن أختم على مستوى أكثر توافقياً، ووفق تحليل متشارك: مثل أوليفيه روا، أعتبر، أيضاً، أنّ عدو داعش الأكبر ليس سوى داعش نفسها. والطريقة الأفضل لإضعاف التنظيم هو التوقف عن منحه شرف تبوّء منصب "عدو الكون رقم 1". لكن النقاش حول المصفوفة القائلة إنّ الآخر الإسلامي متطرف، هنا أو في الخارج، تبقى في صلب القدرة التي سنعطيها أولاً لأنفسنا، إذا كنا سنعدلها أو لا استجابة لـ"معزوفة" “العالمثالثية"، لإعادة بناء نسيجنا الوطني، لجعله جاهزاً أمام التحديات الخطيرة التي عليه أن يتجاوزها.

7E0A5523-028B-4D6D-BA3D-AF6C62F295CD
فرانسوا بورغا

عالم سياسة وباحث أول في "المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي". مدير سابق للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى. يرأس برنامج "حين يفشل الاستبداد في العالم العربي" في مجلس البحوث الأوروبي.