ما لا يرويه الجنود

ما لا يرويه الجنود

04 يونيو 2017
+ الخط -
حكايات كثيرة لا تزال تُروى عن حرب يونيو/ حزيران عام 1967، أكثرها يرويها الجنود الذين حملوا السلاح وقاتلوا، وقليلٌ منها يرويها من سلبتهم الحرب حياتهم البسيطة في بيوتهم الآمنة، وهذه الأخيرة عادة ما تضم تفصيلاتٍ صغيرةً غُيّبت في خضم العرض الكبير لمجريات الحوادث.
في رواية لافتة في كتابه "الحرية في المرة القادمة"، يحكي جون بلجر قصة زيارته مخيم عقبة جبر عام 1968، والذي وصفه وقتها بـأنه "أضخم مدينة أشباح في العالم"، ينقل فيها مشاهد لبيوت خاوية، وأبواب مشرعة، وأعمال يوميةٍ لم تكتمل، حيث هاجر الأهالي في ليلة واحدة إلى الضفة الشرقية، عبر جسر اللنبي، فرارًا من مجزرةٍ متوقعة. هاجروا كلّهم، كما يروي بلجر، باستثناء رئيس بلدية المخيم الذي ظلّ يحرسه في غيبة سكّانه، يمشي بين أزقته منتصب القامة، حاملًا على كتفه عصا مكنسةٍ اتخذها بديلًا لبندقية متخيّلة في ذهنه، رافعًا صوته بين حين وآخر بأوامر يُصدرها لجنود مُتخيّلين أيضًا.
يضم الأرشيف الفلسطيني في جامعة بيرزيت مقابلاتٍ مسجلةً مع بعض سكان المخيم، يتطرّق فيها أصحابها، بشكل يسير، إلى ذكر ما حصل فيه خلال الحرب عام 1967. في إحدى هذه المقابلات، سُئل سليمان العابد عمّا جرى في المخيم في ذلك الوقت، فتحدّث بألم كبير عمّن سمّاهم "الجواسيس" أو "العملاء"، وحمّلهم مسؤولية نزوح الآلاف من الأهالي، بسبب ما أشاعوه من خوفٍ بينهم، حين جاءوا يحدّثونهم عن الموت القادم إليهم من الغرب مع مجنزرات الجنود ودباباتهم، وما ساقوه من تهويلاتٍ لحوادث قالوا إنّهم رأوها وسمعوها عن مجازر وجرائم ارتُكبت بحقّ سكّان المناطق المجاورة. لأجل هذه الروايات، كما يقول العابد، خرّبت الديار ونزح الناس "ما ظل فيها ولا حاجة، ظلّ فيها الحج حسن وبعض الناس".
عماد أبو سمبل؛ المدير السابق للجنة الشعبية في المخيم، استخدم هو الآخر وصف "مدينة الأشباح" في حديثه عن المخيم بعد حرب 1967، إلّا أنّه، على خلاف ما ذكره العابد، وعلى خلاف ما حدث في مناطق عديدة في نكبة عام 1948، أكّد على أنّ نزوح الأهالي منه لم يكن بسبب شائعاتٍ أو أقاويل عن مجازر استفزّت الخوف في قلوب سامعيها، وإنّما كان بعد قصفٍ شديد تعرّض له المخيم. قُصف المخيم، وأُطلقت عليه نيران كثيفة، ووُزّعت على الأهالي منشوراتٌ طلب فيها جيش الاحتلال منهم الاستسلام وعدم المقاومة. يومها، خرج الناس من منازلهم رافعين بأيديهم رايات بيضاء. سُلّم المخيم، ونزحوا عنه إلى الضفة الشرقية القريبة منه، مخلّفين وراءهم بيوتهم الطينية بمحتوياتها البسيطة، لم يؤخذ منها شيء. وبسؤاله عن رئيس البلدية أو مختار المخيم في تلك الفترة، ذكر أنّ اسمه كان عبد اللطيف شحادة، بقي فيه ولم يُهاجر، وبقي معه عدد من السكّان، وختم روايته بأنّه، حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، ظلّ حضوره، أي المختار، قويًا، إلى درجة أنّ جيش الاحتلال، طوال الفترة التي تبعت الحرب وحتى وفاته، لم يكن يُقدم على تفتيش أيٍّ من بيوت المخيم إلّا بوجوده وتحت سمعه وبصره.
رئيس البلدية، أو الحاج حسن، أو لعلّه المختار عبد اللطيف شحادة، شخصية واحدة تنتهي بذكرها ثلاث روايات عن مخيم عقبة جبر، تقدّم نموذجًا لما عايشه أولئك الذين عبرت الحرب من فوق رؤوسهم، وتخللت حياتهم، فصمدوا، وصاروا جزءًا من ذاكرة الوطن المتروك. لم تشِع حكاياتهم، ولم يتداولها الناس، لكنّها ظلّت مخزونة في ذاكرة من عايشوهم أو سمعوا بهم، لتكون الجزء المفقود أو الغائب الذي لا تكتمل من دونه صورة المشهد.
D88F6515-2641-4B76-9D90-9BDC22B8B5E4
منى عوض الله

محررة ومساعدة باحث لدى مشروع بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية.