ما قاله السّديس

ما قاله السّديس

07 سبتمبر 2020
+ الخط -

إبّان احتلال ألمانيا النازية فرنسا، مطالع الأربعينيات في أجواء الحرب العالمية الثانية، كان إمام مسجد باريس الكبير وأحد أبرز مؤسّسيه، الشيخ قدّور بن غبريت (1860 – 1954) يعطي مئات اليهود بطاقات هويةٍ مزوّرة، "تُثبت" أنهم مسلمون، موقّعةً منه ومختومةً من إدارة المسجد، ليحميهم من مطاردة النازيين وحكومة فيشي العميلة، وليُنقذهم من جرّهم إلى "الهولوكوست"، وقد نجوا بفضله. لم يكن ذلك الشيخ الجزائري، والدبلوماسي السابق (التقاه الحاج أمين الحسيني)، يفعل هذا نفاقاً لأحد، ولا تزلّفاً للحركة الصهيونية الناشطة آنذاك، وإنما صدوراً عن حسّه الإنساني العالي، وإدراكه معنى الإسلام. تماماً كما فعل المسلم الحسن باثيلي، في يناير/ كانون الثاني 2015، لمّا أنزل 15 يهودياً كانوا في مطعم مأكولاتٍ يهوديةٍ في باريس، إلى الطابق السفلي، ووضعَهم في غرفة تبريد، وقطع عنهم الكهرباء، فأنقذهم بذلك من اعتداءِ داعشيٍّ إرهابيٍّ على المطعم، قُتل فيه أربعة يهود. بادر ذلك الشاب المالي إلى شجاعته الفائقة الإنسانية، وليس في باله دفع فاتورة نفاقٍ لإسرائيل أو غيرها.
تأتي إلى البال المأثرتان أعلاه، البعيدة قبل أزيد من سبعة عقود والقريبة قبل خمس سنوات، بمناسبة عظة خطيب الحرم المكّي، عبد الرحمن السّديس، يوم الجمعة الماضي، للمسلمين، عن "منهجٍ أبلج" (بتعبيره)، قوامُه، على ما يُستخلَص مما في ورقاتٍ مكتوبةٍ بين يديه، معاملةُ غير المسلم معاملةً حسنة، غير أن ورقاتِه خصّت اليهودي (لا بأس). والعجيب هنا أن المسلم مدعوّ، بحسب السّديس، إلى ذلك، تأليفاً لقلب غير المسلم، واستمالةً لنفسه للدخول في الدين القويم، وليس بدافعٍ إنسانيٍّ محض. والأعجبُ أن صاحبنا هذا أبلغَنا، من المدوَّن في ورقاته، أنه "حين يغفل منهج الحوار الإنساني تذكى جوانب الصدام الحضاري، وتسود لغة العنف والإقصاء والكراهية". ويحتاج واحدُنا أرطالا من سلامة العقل ليصدّق أن قائل هذا الكلام اسمُه عبد الرحمن السّديس، فليس مأثوراً في أرشيف الرجل، المرتجَل والمقروء، معجمٌ مثل هذا، فلم يحدُث مرّة أنه دعا أحداً، أيَّ أحد، إلى نبذ الإقصاء ولغة العنف، بل صمتَ عن حكّام بلده، وأمثالهم في غير بلد، على ما ارتكبوه من فائض العنف في غير نازلة. ولمّا كان يدعو العليّ القدير أن يُنقذ المسجد الأقصى، قبل الغضون الراهنة، كان يأتي على إنقاذ المسجد من "رجس اليهود المعتدين"، كما فعل غير مرّة، في تعبيرٍ يحيل إلى ديانة المعتدين، لا إلى صفتهم محتلّين. والراجح أن مأثورات شيخ الحرم المكّي في غير مسألة، من قبيل وصفه محمد بن سلمان مرّة "محدّثاً ملهماً"، وزعمه إن أميركا والسعودية تقودان العالم إلى السلام، الراجح أن كلامه هذا وكثيراً مثلَه من أسباب امتناع مسلمين عن الصلاة وراء إمامته في مركز إسلامي في جنيف، بعد محاضرةٍ له هناك، قبل عامين، قرّعه فيها جزائري ومغربي، لمباركته رزايا يقترفها حكّام بلده.
تحتاج مجتمعاتنا العربية، المسلمة تعييناً، إلى تثقيفٍ دائمٍ بشأن معاملة غير المسلم، ونبذ الأفكار والممارسات العنصرية والمذهبية والطائفية، بنسخها الداعشية وغيرها. وفي البال أن اعتداءاتٍ غير قليلةٍ على كنائس في مصر سبقت دولة أبو بكر البغدادي في الموصل، وسلطتَها في الرّقة، وأن قتل سبعة رهبان في الجزائر سبق، بعقديْن، ذبح "داعش" 21 عاملا مصريا قبطيا في ليبيا قبل خمسة أعوام. من الملحّ أن يُقال هذا، مقروناً بالتأكيد على بديهيٍّ موجزُه أن مجتمعاتنا، في هذه المسألة (وغيرها طبعا)، أبعد ما تكون عن الحاجة إلى سماع عبد الرحمن السّديس، (وأمثاله بالغي الركاكة في الإمارات ومصر مثلاً)، ليس لمواصلته الخرس بشأن قتل مسيحيين من أبناء الأمة، في مصر وغيرها، وإنما أيضاً لأنه جاء على حسن معاملة اليهودي في سياق "لزوم الجماعة وحُسن السمع والطاعة للإمام خلافاً لنهج الخوارج المارقين والبُغاة المقيتين".. وهنا، كان الأدعى على السّديس، إن كان الذي كتب الخطبة، أو على من كتبوها له، أن لا يتصنّع التشاطر المفضوح. كان عليه عدم اللفّ والدوران، ويبقّ البحصة التي ألقموها في فمه، فيلقيها كما هي، من دون غمغمة، بأن يقول إن أولي الأمر يقولون بالمؤانسة مع المحتلّين الإسرائيليين، وإن على جمهور المسلمين طاعتهم في هذا.
كانت خطبةَ صلاة جمعة، ولا مصلّين. كانت مكتوبةً. وقراءة خطيب الجمعة الذي يحفظ القرآن خطبتَه من ورقاتٍ مكتوبةٍ دليلٌ على نقصان درايته، وقلّة معرفته. وإلى هاتين المثلبتيْن، يدلّ السديس على ذيليّته أيضاً.. رحم الله الشيخ قدّور بن غبريت.

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".