ما قاله الجنرال غورو عند ضريح صلاح الدين.. الحقيقة والأسطورة

ما قاله الجنرال غورو عند ضريح صلاح الدين.. الحقيقة والأسطورة

16 سبتمبر 2020
ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق، 1970 (Getty)
+ الخط -

منذ بداية هذا القرن، حفلت أجندة المؤرّخِين بمرور مئويات لأحداث مهمّة في تاريخ المنطقة العربية، ومن ذلك مئوية وصول سكّة الحديد إلى مكّة المكرّمة وإعلان الدستور العثماني في 1908، والحرب العالمية الأولى في 1914، والثورة العربية في 1916، ووعد بلفور في 2017، وإعلان الحكومة العربية في دمشق في 1918 وغيرها. ويُفتَرَض عادةً في المئويات أن تكون فرصةً لمراجعة الأحداث بعين نقدية بعيدة عن العواطف والأجندات التي تُوظَّف لصالح أنظمة فقدت شرعيتها، في ضوء كشف المزيد من الوثائق والمذكّرات للمشاركين في تلك الأحداث والدراسات الجديدة (في لغات أُخرى) التي عملت فرقاً في مقاربة تلك الأحداث.

ولكن إذا استثنينا "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي خصّص ندوتَين دوليتَين لمئويّتَين من هذه المئويات (مئوية الحرب العالمية الأولى ومئوية الحكومة العربية في دمشق) حفلتا بأوراق قَدّمت جديداً بالفعل، وكانت لنشرها فائدة يُفتَرض أنْ تحثّ الجيل الجديد من المؤرّخين على مزيد من البحث والنقد لما هو موجود ومسلَّم به من أساطير مؤسِّسة لاتجاهات فكرية وسياسية في الكتب المدرسية والجامعية، وحتى في بعض المذكرات لشخصيات يُفتَرَض أن تكون فوق الشبهات، فإن الحصيلة العامّة لهذه المئويات كانت دون التوقُّعات.

وفي هذا السياق تحلّ الآن، ضمن مئوية ميسلون واحتلال الجيش الفرنسي دمشق في نهاية تمّوز/ يوليو 1920، مئوية وصول الجنرال الفرنسي هنري غورو إلى دمشق وزيارته الجامع الأموي وما قيل عن ذهابه إلى ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي وجملته "الآن عدنا يا صلاح الدين"، التي لطالما ألهمت الاتجاهات الجديدة الوطنية السورية والقومية العربية والإسلامية العابرة للحدود في صراعها مع العدو الموجود أو المفترض. وكما في كلّ مئوية لدينا هنا فرصة لمراجعة تلك الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو وتفحّص ما فيها من حقيقة وأسطورة.

جملة لطالما ألهمت الاتجاهات الوطنية والقومية والإسلامية

ولا بد أن أعترف هنا بفضل المؤرّخ الأردني المعروف علي محافظة، الذي تَصادف أن يكون رئيساً لجامعة اليرموك الأردنية، حين عملتُ بقسم التاريخ خلال 1989 - 1995؛ إذ كان أوّل من نبّهني إلى حقيقة أو أسطورية هذه الجملة السحرية المنسوبة إلى الجنرال غورو؛ فقد كنتُ حاضراً في أكثر من ندوة وحديث له، وهو الذي تخرّج من "جامعة السوربون" ويعرف جيّداً الوثائق والمصادر الفرنسية، قال فيها إنه بحث خلال دراسته في فرنسا وبعد عمله الطويل أستاذاً للتاريخ عن هذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو فلم يجد سنداً لها. ولكن هذا لم يغيّر شيئاً من واقع الحالة، وبالتحديد من سحرية هذه الجملة وتطوُّرات استخدامها حتى الآن.

ويفترض هنا، بطبيعة الحال، لحسم ذلك، أن يتمّ تتبُّع أول ولادة لهذه الجملة ونموّها في المكان والزمان، أي فيما نُشر في لغات عدّة عبر مئة سنة، حتى أصبحت راسخة لدى الكتّاب التي يستفيدون منها في ما يكتبونه ويوصلونه من رسائل للقرّاء. ولذلك، لا يجب أن نُفاجَأ هنا بأنَّ هذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو نمت كأية أسطورة وأصبحت تُنسَب إلى أكثر من شخص كما تبهّرت بإضافة كلمات أُخرى تناسب أكثر الظروف التي يعيشها السوريون. وهكذا نجد مثلاً في مذكّرات اللواء راشد الكيلاني التي صدرت في دمشق عام 1990، وهو الذي شارك في حرب فلسطين 1948 والأحداث اللاحقة وأصبح لاحقاً سفيراً لسورية في عدّة دول، أن هذه الجملة قد غدت أطول وأكثر دلالة: "يا صلاح الدين، أنت قلت لنا إبان حروبك أنتم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليها، وها نحن عدنا لترانا في سورية"، دون ذكر أيِّ مصدر لذلك، مع العلم أن صاحب المذكّرات أقام في فرنسا لدورة عسكرية ويُرجّح أنه يعرف اللغة الفرنسية.

ويمكن أن يكون المدخل المناسب لذلك ما نُشر من دراسات أكاديمية جديدة عشية مئوية الحكومة العربية، وصولاً إلى موقعة ميسلون ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق يوم 25 تمّوز/ يوليو 1920. 

ففي كتابها "كيف سلب الغرب الديموقراطية من العرب"، تُركّز المؤرّخة الأميركية إليزابت تومبسُن، المتعاطفة مع العرب بشكل واضح، على السياق الذي جرت فيه معركة ميسلون والأجواء التي أراد الجنرال غورو أن يشيعها في دمشق خلال زيارته الأولى. وهكذا، في الوقت الذي كان فيه الشيخ كامل القصّاب يجول في أحياء دمشق عشية ميسلون داعياً إلى الجهاد ضد الفرنسيّين، توضّح تومبسُن أن غالبية الجنود "الفرنسيين" الواصلين إلى ميسلون كانوا من مسلمي الجزائر والمغرب والسنغال. ومع نتيجة المعركة التي حُسمت بسرعة في 24 تمّوز/ يوليو 1920 لم يتعجّل قائد القوّات الفرنسية، الجنرال ماريانو غوابيه، الدخول إلى دمشق مساءً، بل ترك ذلك لليوم الثاني (25 تمّوز/ يوليو)؛ حيث استعرض قوّة فرنسا المنتصرة في شوارع دمشق، ولذلك لا يُعدّ من المستغرب أن تُنسب تلك الجملة السحرية إلى الجنرال غوابيه أيضاً ضمن هذا السياق.

لا وثيقة تثبتها ولكن هذا لم يغيّر شيئاً من سحريتها

وعلى العكس من ذلك، فقد تأنّى كثيراً الجنرال غورو قبل أن يقوم بزيارته الأولى إلى دمشق، التي جاءت بعد أسبوعَين. ولذلك لا يبدو مستغرباً ضمن نمو الأسطورة وانتشارها أن نجد كاتباً مصرياً ينشر مقالاً بعنوان "ها قد عدنا يا صلاح الدين" (المصري اليوم، 27/5/2017) يقول فيه مستهيناً بالتاريخ: "دخل الجنرال الفرنسي غورو دمشق منتصراً بقوّاته وتوجَّه من فوره إلى قبر صلاح الدين ليقف أمامه قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين"!

وفي الواقع، كما تكشف إليزابيت تومبسُن، لم يشأ الجنرال غورو أن يكون دخوله إلى دمشق (على عكس الجنرال غوابيه) مصحوباً بحشد عسكري وخطاب استفزازي، بل كان حريصاً على أن يكون برنامج الزيارة مجامِلاً للمسلمين. وهكذا فقد وصل بالقطار إلى محطّة الحجاز في دمشق يوم السبت 7 آب/ أغسطس 1920، وبعد الاستراحة نظّم حفلة استقبال وعشاء لكبار الشخصيات في دمشق. وهكذا كان حريصاً أن يكون على يمينه رئيس الحكومة المتعاونة مع فرنسا علاء الدين الدروبي، ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف، اللذان افتخرا خلال الحديث بأن أولادهما يدرسون في فرنسا. وحين جاء دور غورو في مخاطبة هذا الحشد من الشخصيات الموزونة في المجتمع الدمشقي، كان حريصاً على أن يوجّه رسالة تقارب مع النخبة المسلمة بقوله: "نحن لم نأت كمستعمرين أو كأعداء للمسلمين"، بل "إن طموحاتي تحمل ازدهار كلّ سورية، وخاصة ازدهار دمشق جوهرة الإسلام".

وفي هذا السياق من التودّد للمسلمين، حرص الجنرال غورو في اليوم التالي على زيارة الجامع الأموي؛ حيث كان في استقباله كبير علماء دمشق الشيخ عبد القادر الخطيب، الذي انتُخب عضواً في المؤتمر السوري عام 1919 وناكف فيه باستمرار الشيخ رشيد رضا رئيس المؤتمر في 1920 خلال مناقشات مشروع الدستور، والذي رحّب به باسم علماء المسلمين في دمشق. ونظراً لأنّ الجنرال غورو كان في برنامجه، بعد ذلك، زيارة حي الميدان المعروف في دمشق ومجاملة الزعامة المحلية فيه، يصبح من الصعب ضمن هذا السياق تصوُّر أن يكون قد قال هذه الجملة بين هذين اللقاءين.

وكانت إليزابيت تومبسُن أثبتت، في الهامش، أنَّ هذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو وجدها مؤرّخ أميركي (مايكل بروفننس) في كتاب نُشر في باريس عام 1928، وذلك في كتابه القيّم بعنوان "الجيل العثماني الأخير وصنع الشرق الأوسط الحديث" الذي صدر في نيويورك عام 2017. ولكن بروفنس (ولد 1966)، الذي يمثّل الجيل الأحدث من المؤرّخين المتخصّصين في سورية، لم يكتف بما نشره في كتابه المذكور حول تلك الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو، بل عاد وبحث مطوَّلاً فيها، بمناسبة إعداد الطبعة الفرنسية لكتابه، ووجد حقائق جديدة تستحقُّ ذكرها.

وفي هذه "المراجعة" الجديدة، اعترف بروفنس بأنه تسرّع بنسبة تلك الجملة إلى الجنرال غورو بالاستناد إلى كتاب المؤرّخة الفرنسية آن ماري اده "صلاح الدين الذي هزم الصليبيين وبنى إمبراطورية إسلامية" الذي صدر في الإنكليزية 2014، إذ إن هذه المؤرخة تبدأ كتابها بالجملة المنسوبة للجنرال غورو. ولكن بعد أن راجع مصادرها وجد أنها غير مؤكدة. فهي تعتمد بشكل مباشر فقط على ما أورده المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان خلال 1938-1940 غابرييل بوه في مذكراته "سنتان في المشرق" التي نشرت في باريس عام 1952، إذ أورد لأول مرة بشكل صريح أن الجنرال غورو زار ضريح صلاح الدين الأيوبي وقال تلك الجملة المنسوبة له.

ولكن الفارق الزمني الكبير بين الزيارة والجملة التي قيلت (1920 - 1952) جعل بروفنس أكثر تصميماً على البحث وعاد إلى الصحف والمجلات الفرنسية التي غطّت زيارة غورو إلى دمشق ووجد في مقالات الكاتبة ماريا روزيت شابيرا، التي كانت تنشر تحت اسم ميريام هاري، عن موقعة ميسلون وزيارة غورو إلى دمشق التي تابعَتها شخصياً بما يخالف الشائع تماماً. ففي مقالها المنشور في مجلة "ليستراسيون" بتاريخ 11-9-1920 تحت عنوان "الجنرال غورو في دمشق" تقول إنه ذهب أولاً إلى الجامع الأموي، ولدى مغادرته الجامع وصل إلى ضريح صلاح الدين، لتصف تلك اللحظة التي عايشتها "لم ندخل الضريح الذي شاهدناه في زيارتنا الأولى. فضّل الجنرال الوقوف تحت ظلال شجرة ليمون في الخارج، حيث شاهد من هناك الساعة الكبيرة التي قدّمها القيصر الألماني خلال زيارته دمشق عام 1898. ومن هناك عاد إلى الجامع حيث كانت 

في استقباله شخصيات مسلمة متنوعة من دمشق". وخلال الحوار الذي دار بين الجنرال غورو وهذه الشخصيات التي تمثل المسلمين في المدينة، لفت نظر الكاتبة إلى أن غورو كان في خطابه معهم "تصالحياً"، إذ أكّد على التسامح الديني ورغبته في الحفاظ على الاستقلال، قبل أن يودعهم للذهاب إلى حيّ الميدان القريب.

وربما يقرّبنا أكثر من فهم ذلك ما وجده بروفنس لدى أحد المشاركين في جيش غورو، والذي تحوّل لاحقاً إلى مؤرخ معروف ألا وهو لويس غارو. فقد نشر هذا المؤرخ في الذكرى الخمسين لميسلون واحتلال القوات الفرنسية دمشق (1970) في جريدة "اللوموند" مقالاً يعتمد على ذكرياته وعلى استنتاجاته نسب فيه تلك الجملة إلى "جنرال" زار ضريح صلاح الدين، ولكن دون أن يوضح أي جنرال: الجنرال غوابيه الذي دخل دمشق أولاً بمظهر الفاتح أم الجنرال غورو الذي جاء إلى محطة الحجاز بالقطار في مظهر المتصالح؟

إن ما ورد هنا يؤكد أهمية الاطلاع على ما ينشر الآن في الولايات المتحدة من كتب تمثل الجيل الجديد من المؤرخين، مثل جيمس غلفنت وليزابيت تومبسُن ومايكل بروفانس، الذين يجيدون العربية ويقرأون بها المصادر والمشاعر ويعبّرون بالتالي عن مقاربة مختلفة وغنية وجديرة بالترجمة إلى العربية. فهل من المصادفة أن تكون مؤلفات هؤلاء غير مترجمة بعد؟

وعلى كل حال يبقى على المؤرخين السوريين في الداخل، الذين هم أقرب إلى المصادر المحلية، أن يبحثوا ويوثقوا أول ظهور لهذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو سواء في الصحف والمجلات أو في المذكرات لجيل الاستقلال للوصول إلى "النبع" الذي فاض بهذه الجملة. 


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون